سالم حميد

تحتكم قيادة الدول واتخاذ قراراتها المصيرية إلى تقاليد عريقة، تراكمت معها الخبرة الإنسانية في مجال الحكم والسياسة. وأصبحت الإنسانية تمتلك موروثاً فلسفياً وممارسات عملية للحكم تم تطبيقها وتحولت إلى تقاليد راسخة. وظلت النخبة تلعب دوراً في رسم سياسات الدول من منظور التوازن بين أصحاب النفوذ والثروة وعامة الناس. مع وجود استثناءات تاريخية تراجع فيها دور النخبة أو الطبقة السياسية، لصالح ميول شعبوية تتذرع بالجماهير وتغازل أحلامها وتطلعاتها بشكل عاطفي ديماغوجي. ولا تخلو تعريفات الشعبوية من الحديث عن ارتكاز هذه الأيديولوجيا على دغدغة عواطف الجماهير لكسب تأييدها وهزيمة القوى الأخرى المناقضة للاتجاه الشعبوي المغامر.

وأصبحت الفترات الاستثنائية التي سيطرت فيها الشعبوية على الحكم توصف بالفاشية والنازية، ومن أشهر رموزها هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا. وكانت الفاشية وجهاً من وجوه الشعبوية التي قامت على تغييب عقول الجماهير وتثوير نزعتها النازية العنصرية للحكم باسمها. وكانت النتيجة كما هو معروف حروباً عالمية وضحايا بالملايين، وانسلخت حقبة زمنية من تاريخ أوروبا اتسمت بالتعصب والتدمير الذاتي وجنون العظمة.

ومع انتهاء حفل تنصيب دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، تدخل أميركا والعالم حقبة جديدة من الشعبوية، التي قبل أن تنبعث في أميركا مؤخراً، كانت مؤشراتها قد بدأت في أوروبا على يد أحزاب يمينية متطرفة.

استخدم ترامب الأسلوب الشعبوي في مواجهة منافسته هيلاري كلينتون، وحصد أصوات غالبية الأميركيين نتيجة لخطابه الشعبوي العاطفي، فتقرب بواسطته من الأميركيين الغاضبين من العولمة ومن قوانين التجارة الحرة والاقتصاد المنفلت الذي أسهمت قواعده في زيادة نسبة العاطلين عن العمل. ورغم إمكانات الديمقراطيين وما تتمتع به شخصية هيلاري من حضور سياسي وحزبي فإن ترامب المجهول في أروقة النخبة السياسية الأميركية فاز بالانتخابات، ودخل البيت الأبيض وفي جعبته حزمة وعود وشعارات كان الجمهور بحاجة إلى الاستماع إليها أكثر من حاجته إلى التأكد من مصداقيتها وإمكانية تطبيقها.

قد لا يكون ترامب عنواناً لمرحلة شعبوية خالصة، لأن تاريخ الولايات المتحدة وواقعها لا ينفصل عن قوى النفوذ وجماعات المصالح الكبرى المتنافسة. ويمكن القول بأن المرحلة الجديدة في أميركا هي مرحلة قوى نفوذ جديدة قدمت إلى المشهد من خارج دهاليز السياسة والنخبة القديمة. بينما كانت المسحة الشعبوية أداة لتحقيق الفوز وهزيمة الديمقراطيين والنخبة القديمة للجمهوريين في الوقت ذاته.

ومن الملاحظ أن شعبوية ترامب وهياج خطاباته ووعوده الفضفاضة تتماشى مع مثال آخر لنمط من الشعبوية في المنطقة العربية، ويمثلها المتأسلمون وحركات الإسلام السياسي في وقتنا الراهن. وإذا كانت ملامح الشعبوية في منهج وخطابات ترامب ترتكز على وعوده للأميركيين بحل مشاكلهم العالقة في مجالات الاقتصاد والأمن من دون أن يوضح لهم كيف سيحقق ذلك، فإن تيار الإسلام السياسي في الشرق الأوسط يرفع شعاره الفضفاض منذ عقود عندما يقول إن «الإسلام هو الحل»، بينما يكتفي أصحاب هذا الخطاب الشعبوي بدغدغة عاطفة الجماهير وممارسة الخداع والتسلق باسم الدين، بدليل أن جماعات الإسلام السياسي لا تمتلك أي برنامج اقتصادي واضح ومعلن، وعندما تحصل على نصيب من كعكة الحكم في أي بلد، تكتفي بالتنعم بملذات السلطة وغنائمها، وتزرع أتباعها في مفاصل الوزارات والمؤسسات دون أن تبدع أي حلول أو معالجات. ويبقى الهدف الأول لهذه الجماعات هو كسب تأييد عامة الناس وتضليلهم. وعندما تناقش أحد أتباع هذا التيار وتطلب منه توضيع العلاقة بين الشعار الذي يرفعونه وبين الإشكاليات الأساسية التي تواجه المنطقة في الوقت الراهن وفي المستقبل، لا يجد سوى جواب التكفير الجاهز ليشهره في وجه من يناقشه!

يتهرب الإسلامويون الشعبويون دائماً من مواجهة مشكلات الغذاء والطاقة وأزمة المياه والموارد والبطالة وغيرها الكثير من أساسيات الحياة، بينما يسعون للوصول إلى السلطة وهم لا يمتلكون سوى شعارات يتاجرون بها منذ عقود لمواصلة خداع الجماهير. وهذا يدل على أن كل خطاب شعبوي عاطفي هو خالٍ من أي مضمون.

ورغم الفارق الجوهري والعقائدي بين ترامب وتيار الإسلام السياسي العربي، فإن الديماغوجية تبقى قاسماً مشتركاً بين الشعبويين مهما اختلفت أديانهم ونظرياتهم الهشة والانفعالية. وما يجمع بين التطرف الإسلاموي وتطرف ترامب وشعبويته هو زمن التطرف الأيديولوجي الذي يعيشه عالم اليوم بأشكال مختلفة.