حسّان القالش

إذا كانت الدول المعنيّة بالقضيّة السورية، أي روسيا وتركيا وإيران، تفكّر حقيقة في إعادة تشكيل الجيش السوري مستقبلاً، فإنّ ما تردّد في الصحافة مؤخراً من تشبيه هذه العملية بتشكيل جيش الشرق إبّان عهد الانتداب الفرنسي لا يبدو موفقاً، في حين أنّ الأصوب، هنا، هو البناء على تلك التجربة للاستفادة منها. 

بيد أنّ استعادة هذه التجربة لا تستقيم دون التخلّي عن تفسير يتيم لها، يصوّرها كأداة استعمارية بحتة، ذاك أنّ غاية الفرنسيين من تشكيل جيش الشرق لم تنحصر في مهمة السيطرة على البلاد، إذ كان بينهم من هو مؤمن بالمهمات الانتدابية لفرنسا، كإنشاء كيان ونظام سياسيّين حديثين بما في ذلك من مؤسسات سياسية كالجيش.

إلى ذلك، هناك حاجة للتخلّي عن شيطنة الجيش، والفكرة النمطية التي تربطه بالأقليات كعناصر دخيلة زرعها الفرنسيون لمآربهم الخاصة. فالعوامل التي تحكّمت في فكرة تشكيل الجيش هي نفسها التي تحكّمت في فكرة إدارة البلاد بالعموم، والقائمة على واقع تعدّد الجماعات السورية، وهذه كانت إحدى الأفكار القليلة الصائبة، إذ جرّب الفرنسيون إدارة سورية على أساس يحاكي النموذج الفيديرالي. هكذا، وإضافة إلى خشية فرنسا من تأثير عرب المدن السنيين المشبعين بفكرة القومية العربية والمعادين لفرنسا، وجد الفرنسيون أنفسهم أمام خيار اللجوء إلى الجماعات الأخرى، وفضّلت من بينهم تلك التي عُرفت بامتلاكها لتقاليد حربية تاريخية، كالدروز والعلويين.

فهناك حاجة، إذاً، لإعادة الاعتبار لدور الأقليات في المرحلة التأسيسية للجيش، فعدا عن مساهمتها في ولادته، ورفده بعناصر ذات تدريب عسكري فرنسي رفيع، كان لهذه العناصر دور حيوي على مستوى جماعاتهم، إذ ساهمت بتجذير خيارهم الوطني بالانتماء النهائي إلى الكيان السوري الحديث ودفن مطالب المجموعات الانفصالية، فضلاً عن دورها على المستوى السياسي العام، إلى جانب بقية الجماعات، وذلك في مرحلة برز فيها الجيش كمؤسسة قادرة على المشاركة بصنع الهوية الوطنية السورية، على أثر تحلّل النظام السياسي للآباء المؤسسين بعد الاستقلال ونزوعه للتخلي عن القيم الديموقراطية. فعلى رغم خطورة انخراط الجيش في السياسة، لا يمكن تجاهل نقطتين أساسيتين في الحالة السورية، أولاهما في ردّ فعل ضباط الجيش على الإهمال والإهانات التي وجهت إلى مؤسستهم، بينما تجلّت الثانية في رغبة أولئك الضباط بالمحافظة على استقلال الكيان الوليد ورفض دعوات الوحدة مع الجارين العراقي والأردني.

في المقابل، وعلى أرض الواقع، يدرك السوريون اليوم أنّ الجيش قد فقد قيمته ودوره منذ زمن، وليس سرّاً مقدار السخرية الشعبية من تلك المؤسسة في مرحلة ما قبل 2011. وعملياً، انتهى الجيش ومات منذ قيام الثورة، فعدا عن دور العامل الاجتماعي في تفكّكه، المتمثّل في الأولوية التي احتلتها الانتماءات الطائفية داخله، بداية من تعامل النظام مع الثورة، وردّود الفعل الشعبية على هذا التعامل، فقد انحطّت صورة الجيش إلى أدنى مستوى، حتى في أعين مؤيدي النظام، الذين لم يتفاجأوا بضعفه فحسب، بل بانحطاط مستواه الأخلاقي في تعامله مع شعبه، وليس أدلّ على موت الجيش من لجوء النظام إلى تشكيل ميليشيات موازية، أو الاستعانة بقوى خارجية ومذهبية، كـ «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني والروس.

وهنا تحديداً، تكمن إحدى العقبات أمام ما يسمّى بإصلاح الجيش، فلئن كان الضباط، في بداياته، قادمين من تقاليد فرنسية، تطوّرت في مرحلة لاحقة إلى تأثّر بالغ بنجاحات النموذج الأتاتوركي العسكري، فإنّ العناصر التي ستشكل نواة الجيش المستقبلي، وهي عناصر معارضة وموالية بحكم افتراض التوصل إلى تسوية، ستكون قادمة من تقليدين متناقضين وسلبيّين، ذاك أنّ المُتبقّي من عناصر الجيش النظامي الحالي وردائفه هُم نتاج تربية النظام العقائدية والطائفية، التي زاد من خطورتها تأثير الإيرانيين المذهبي، بينما ستكون العناصر الجديدة، القادمة من الفصائل العسكرية المعارضة، مُشبعة بتأثيرات إسلامية وجهادية ومذهبية متفاوتة النسب، وهذا ما يفرض ضرورة لمحاكمات تطاول مجرمي الحرب الرئيسيين، سواءً من جيش النظام أو من الفصائل المعارضة. إلى ذلك، يغيب النموذج القدوة للجيش المستقبلي، نظراً إلى النماذج التي تقدمها الدول الراعية، ذاك أنّ جيوش هذه الدول لا تنضبط على إيقاع الديموقراطية بل مشحونة بكراهية وعدائيّة تتغذّيان على إيديولوجيّات إمبراطورية ودينيّة.

ولا شكّ في أنّ التناقض الكبير ما بين نماذج هذه الدول وسياساتها سيخلق عقبة أخرى تتمثّل في تعريف العدوّ الذي يتوجّب على الجيش المستقبلي أن يحمي الشعب منه، وذلك انطلاقاً من المجازر التي قام بها الإيرانيون والروس ضدّ المدنيين السوريين، وممارساتهم الاحتلالية الواضحة، إضافة إلى الأطماع التاريخية لتركيا في الشمال السوري ونشاطها هناك. 

هذا بينما المواجهة مع إسرائيل، التي قامت عقيدة الجيش السابق على اعتبارها العدوّ المباشر، تثير الكثير من الشبهات، ولعلّ هذا ما يستدعي إحلال أولويّة في التفكير بهذه المسألة المهملة، فإذا كان نظام الأسد قد استطاع ضمان الحدود مع «العدوّ»، مع استمراره باستخدام هذا العداء كأداة لقمع الحريات في البلاد، فقد يكون من المفيد أن يبادر السوريون إلى فتح هذا الملف في شكل علني ونزيه، والإعلان عن الاستعداد للانخراط في عملية سلام تنهي ذريعة إيقاف الحياة في البلاد في سبيل هذه المسألة. 

وأغلب الظنّ أنّه إذا ما تحقّقت أمور ثلاثة، منها تسوية ملف السلام، واستعياب الأقليات والانفتاح عليها، وحماية الأكثرية السنية من التأثيرات التي تدفعها نحو التطرف، فإنّ الجيش المستقبلي سيكون قادراً على الانضباط بمهماته التقليدية، والابتعاد عن التدخل في السياسة، والعودة إلى بداياته كمؤسسة قادرة على استكمال مهمة خلق الهوية الوطنية.


* كاتب وصحافي سوري