في الآونة الأخيرة كثر الحديث في الصحافة السعودية وفي وسائل التواصل الاجتماعي عن قرب افتتاح دور السينما في مدن المملكة العربية السعودية الشقيقة. وفي اعتقادي المتواضع أن السينما بالمفهوم المتعارف عليه عالميا، كطقس «فرجوي» ترفيهي، قادمة لا محالة إلى المملكة، وما اعتراض البعض إلا أمر وقتي سيكون مآله الزوال، خصوصا في ظل الشغف الكبير للمواطن السعودي بالفن السابع وملاحقته لأقوى العروض. ودليلنا هو تزاحم أهالي المنطقة الشرقية وأسرهم في نهايات الأسبوع على السفر إلى البحرين وقطر لمشاهدة آخر وأحدث الأفلام داخل صالات فخمة مريحة، وبالتالي الاستمتاع بأجواء لا يمكن أن توفرها مشاهدة نفس الفيلم من خلال القنوات الفضائية أو من خلال الأقراص المدمجة وأجهزة الفيديو. 


فالسينما من خلال الشاشة الصغيرة، مجرد فيلم لا يصاحبه ذلك الوهج والتميز الملازم لرؤيته عبر شاشات ضخمة ومكبرات صوت مزلزلة ومقاعد مخملية مريحة وجمهور يتفاعل معه قهقهة أو دموعا.. تأييدا أو سخطا. 
واعتقد أيضا أن رئيس هيئة الترفيه في المملكة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان يعي كل هذا جيدا، ويعرف أيضا أن السماح للمستثمرين بتأسيس الصالات السينمائية سوف يكون له مردود اقتصادي كبير على البلاد. وفي هذا السياق يمكن الاستعانة بتجربة البحرين، حيث أسس عدد من التجار شركة مساهمة تحت اسم شركة البحرين للسينما. هذه الشركة بدأت نشاطها بالاستحواذ على صالات السينما القديمة وتحديثها وتطويرها الواحدة تلو الأخرى وراحت تحقق الأرباح المعتبرة خصوصا بعد تمددها إلى المجمعات التجارية الكبيرة. وهاهي اليوم تملك نصيب الأسد من دور السينما، ليس في البحرين فقط وانما في قطر أيضا.

 


الأمر الآخر أن السينما ليست غريبة على السعودية تاريخيا، ففي كل منطقة كان هناك مكان لعرض الأفلام في الماضي، وإنْ لم يكن في مستوى دور العرض المعروفة عالميا. ولأني عشت صباي ومراهقتي وسنوات من شبابي في المنطقة الشرقية فسوف يقتصر حديثي هنا على السينما في المنطقة الشرقية، ودورها الكبير في توعية الجمهور بالكثير من الأمور التي كانت خافية عليه، بل دورها في تنمية أذواقه وحسه الفني.
من الضروري قبل الخوض في الموضوع أن نفرق بين أمرين. فإذا كان المقصود بالسينما دور عرض وشبابيك تذاكر وجمهور مشاهدين وأفيشات أفلام، فإن السينما في المنطقة الشرقية، بهذا المعنى، لم تكن موجودة إلا في نطاق الحي السكني لكبار الموظفين الأجانب،

 

 

والحي السكني للموظفين المتوسطين السعوديين والعرب العزاب في كل من الظهران وبقيق ورأس تنورة ومدن النفط الحديثة الأخرى. هذا بالإضافة إلى القاعدة الجوية بمطار الظهران الدولي التي كانت تحتضن صالة سينما واحدة للترفيه عن أعضاء بعثة التدريب العسكرية الأمريكية وضباط القاعدة وموظفي المطار والأرصاد الجوية. أما إذا كان المقصود بالسينما مجرد مشاهدة فيلم معروض على الشاشة، فإن المنطقة الشرقية ربما كانت محظوظة أكثر من غيرها من مناطق المملكة بسبب بث تلفزيون أرامكو من الظهران الذي بدأ في 16 سبتمبر/‏‏أيلول 1957، فكانت هذه القناة التلفزيونية هي الأولى خليجيا، والثانية على مستوى الشرق الوسط من بعد تلفزيون بغداد الذي انطلق بثه قبل ذلك بأشهر معدودة.

 


لقد حرص القائمون على تلفزيون أرامكو على الترفيه عن أبناء المنطقة الشرقية واخوتهم في الدول القريبة التي كان يصلها البث مثل البحرين وقطر، من خلال عرض خمسة أفلام من الإنتاج السينمائي المصري أسبوعيا، ومثلها من أفلام هوليوود، مدبلجة إلى العربية. وكان يقوم بالدبلجة في ذلك الزمن المبكر نخبة من موظفي أرامكو السعوديين والعرب الضليعين في اللغتين العربية والانجليزية. 
وهكذا ترسخ حب السينما في نفوسنا ونحن في مرحلة عمرية مبكرة، ولامست أفلامها وقصصها وجداننا ومشاعرنا، وتعلمنا منها أشياء كثيرة لا حصر لها.
بالمعنى الأول للسينما كانت بداية تعرفي وزملائي عليها في البحرين التي كنا نسافر إليها في الإجازات بواسطة المراكب الشراعية في رحلة كانت تستغرق ما بين 3 ـ 4 ساعات وبقيمة خمسة ريالات (خمس روبيات) في كل اتجاه.

 


ومن المهم هنا أن أشير إلى أن البحرين عرفت الأشكال البدائية للعروض السينمائية في عام 1922 من خلال كوخ على ساحل البحر في المنامة بناه شخص من عائلة الساعاتي، ثم عرفت دور العرض السينمائية بشكل أرقى وأكثر تنظيما بدءا من عام 1937 الذي افتتحت فيه دار للسينما بالمنامة تحت اسم «مرسح البحرين»، فكانت البحرين سباقة في هذا المجال مقارنة بغيرها من دول الخليج.
انبهرنا بالصالات السينمائية وعروضها المتتالية وما كانت تقدمه من خيارات متنوعة عربية وامريكية وهندية، على الرغم من أن تلك الصالات وقتذاك (مطلع الخمسينات إلى مطلع الستينات) كانت من غير تكييف أو مرافق، وبمقاعد غير مريحة، وجمهور فوضوي. وبعبارة أخرى لم تكن تلك الدور آنذاك كحالها اليوم لجهة الفخامة والراحة والهدوء والروائح الزكية وتوفير كل المتطلبات والخدمات من دورات مياه ومأكولات ومشروبات. 

 


وبسبب محدودية وسائل الاعلام وقلة عدد صفحات الجرائد في الخمسينات، لم تكن الدعاية للفيلم المعروض في دور السينما البحرينية متاحة بالوسائل التي نعرفها اليوم. فكان العلاج هو لجوء أصحاب دور العرض إلى استئجار بعض الصبية والعمال الفقراء للترويج عن الفيلم عبر لصق إعلانات وأفيشاته على جدران البيوت والأحياء، أو لصقها على ظهورهم والدفع بهم للسير في الطرقات المزدحمة، وهم يصرخون بعبارات مثل: «لا يفوتكم الفيلم الفلاني في السينما الفلانية.. العرض يبدأ الساعة كذا.. والكراسي محدودة». 
ومن الطرائف في هذا السياق أن المروج لفيلم «عنتر وعبلة» الذي حظي بنسبة مشاهدة عالية كان يردد قائلا: «تعالوا شوفوا عنتر الليلة.. عنتر صار اقوى من البارحة.. وسيفه صار أطول.. وحبيبته عبلة صارت أجمل». والغريب أن مثل هذه الأكاذيب كانت تنطلي على الكثيرين من السذج فيصدقونها ويذهبون لمشاهدة فيلم سبق لهم مشاهدته من أجل اكتشاف الفرق المزعوم، ثم ليخرجوا من الصالة معلنين أن عنتر كان بالفعل أقوى من المرة السابقة، وأنه قتل بسيفه الجديد عددا أكبر من خصومه عن ذي قبل، وأن عبلة كانت بالفعل أجمل وإنْ كان وزنها قد زاد قليلا.

 


ثم تعرفنا مع مرور الوقت على السينما بالمعنى الأول المشار إليه آنفا من خلال التردد على صالات السينما في الظهران ومطارها الدولي. ففي الظهران كانت هناك صالة سينمائية في حي كبار الموظفين (سينيور ستافSenior Staff) ملاصقة لصالة طعام كبار الموظفين (Dining Hall)، وكانت هذه الصالة معروفة بفخامتها ونظافتها وتكييفها ومقاعدها الاسفنجية المريحة ذاتية الانطواء. وكانت هناك صالة أخرى أقل فخامة في الظهران في حي الموظفين المتوسطين من سعوديين وعرب، وكانت مغلقة السقف شتاء مفتوحة السقف صيفا. 


في كلتا الصالتين كان الدخول مقتصرا على موظفي ارامكو وعوائلهم والمدعوين من أصدقائهم. فمثلا كان الموظف يصطحب ضيفه أو يترك له تذكرة دخول مدفوعة الثمن عند المسؤول عن شباك التذاكر. وكانت اسعار الدخول في الستينات الميلادية لا تتجاوز 3 ريالات للعرض الواحد. وكانت الصالتان تعرضان فقط أفلاما من إنتاج هوليوود، تاريخية أو حربية أو رومانسية او استعراضية دونما ترجمة أو دبلجة، على اعتبار أن جل المشاهدين من موظفي أرامكو، وهؤلاء يجيدون الانجليزية بطبيعة الحال، وقد استفدنا من هذه الحالة كثيرا لجهة تطوير وتحسين مهاراتنا في اللغة الانجليزية. فكنا لا نخرج من مشاهدة الفيلم إلا وفي جعبتنا جملة أو جملتين أو أكثر من اللغة.


أما في مطار الظهران، الذي كان عبارة عن مدينة صغيرة بكافة مرافقها، فقد كانت هناك صالة سينما فخمة ومكيفة بكراسي مريحة ومرافق خدمية ملحقة تحت اسم «سينما النخيل» أو «Palm Cenima»، وكان الدخول إليها مقتصرا على العاملين في قاعدة الظهران الجوية، ومدرسي مدرسة الفنيين الجويين، وأعضاء بعثة التدريب العسكرية الأمريكية، وموظفي الأرصاد الجوية وبرج المراقبة بالمطار وعوائلهم والمدعووين من أصدقائهم. أما إدارة السينما فكانت موكلة إلى بعثة التدريب العسكرية الامريكية التي كانت وراء فكرة تأسيسها من أجل الترفيه عن أعضائها. على أننا كنا نحاول شق طريقنا والدخول إلى السينما عن طريق الوقوف أمام شباك التذاكر واستجداء كرم وعطف الداخلين، فكنا ننجح في أغلب الأحيان في إثارة شفقتهم ونخوتهم فيدخلوننا معهم إلى الصالة كضيوف مزورين. وفي أحايين أخرى كنا نستعطف المسؤول الأمريكي في شباك التذاكر، وكان هذا حريصا على انتقاء من يسمح لهم بالدخول اعتمادا على شكله وملبسه لأنه لم يكن في وارد تحمل المسؤولية عن إدخال شخص مشاغب أو فوضوي.


في هذه الصالات تعرفت وأصدقائي على عمالقة السينما الامريكية، وشاهدنا مجموعة من أجمل أفلام هوليوود مثل «ذهب مع الريح»، و«وداعا للسلاح»، و«كازبلانكا»، و«مرتفعات ويذرينغ»، إضافة إلى الأفلام التي مثلها عمر الشريف مثل «دكتور زيفاكو»، و«كليوباترا»، و«لورنس أوف أرابيا». وكنا قد عرفنا عمر الشريف سابقا من خلال أفلام الأبيض والأسود المصرية المعروضة في التلفزيون، فإذا بنا نراه، وسط دهشة وانبهار شديدين، يمثل فيلما ملونا مع جميلات هوليوود و«يرطن» معهن بانجليزية متقنة. 
ويمكن اختصار عشقنا للسينما في تلك الفترة المبكرة من حياتنا في جملة واحدة: «بسبب مستوياتنا المعيشية البسيطة وقلة دراهمنا، كنا على استعداد أن نقطع مسافة ستة أميال من الخبر إلى الظهران مشيا على الأقدام تحت الشمس الحارقة؛ لنكون واقفين في الوقت المناسب أمام شباك التذاكر من أجل مشاهدة فيلم سينمائي».


وأتذكر أن عروض صالات أرامكو في الأيام العادية كانت عبارة عن عرضين، العرض الأول من الثانية ظهرا وحتى السادسة مساء، والعرض الثاني من السادسة مساء وحتى التاسعة مساء. وكان كل عرض تتخلله فترة راحة يذهب فيها المشاهدون والمشاهدات إلى الكافتيريا الملحقة بالسينما لتناول المشروبات والمأكولات الخفيفة. أما في نهايات الأسبوع فكان يضاف عرض ثالث من التاسعة الى منتصف الليل. أما صالة سينما النخيل فكانت تقدم ثلاثة عروض يومية من الثانية ظهرا وحتى منتصف الليل مع فترات راحة بين كل عرض وآخر مدتها نصف ساعة. وأتذكر أن هذه الصالة كانت لديها قوانين صارمة مثل تطبيق عقوبة الطرد بحق كل من يتحدث بصوت عال أثناء الفيلم، وكل من يتحمس ويتفاعل مع المشاهد تصفيقا أو تصفيرا.


وبالمناسبة فإن صالات أرامكو السينمائية لا زالت قائمة، وستظل كذلك ما بقيت أرامكو بوجهها الحضاري التنويري. أما صالة سينما النخيل في مطار الظهران فقد أغلقت في مطلع الثمانينات بـُـعيد احداث الحرم المكي بقيادة الهالك جهيمان. ويعتقد الكثيرون أن إغلاق هذه الصالة كان بسبب انتهاء عمل بعثة التدريب العسكرية الامريكية في مطار الظهران، لكن الحقيقة أن الإغلاق كان سببه ضغوط المتشددين الذين قويت شوكتهم بعد حركة جهيمان وأُتيحت لهم فرصة التدخل في الكثير من مناحي الحياة الاجتماعية، ولولا ذلك لكان بالامكان ترك الصالة على ما هي عليه للترفيه عن المقيمين الكثر في قاعدة الظهران الجوية والعاملين في مطار الظهران الدولي ومنشآتها، وعدم السماح ببيعها إلى رجل الأعمال سعيد أبوالجدايل الذي حولها إلى «سوبرماركت أبو الجدايل»، أما بالمعنى الثاني للسينما فأعتقد ان جيلي كان محظوظا كثيرا بسبب دخول التلفزيون إلى منازلنا قبل غيرنا في مناطق الملكة العربية السعودية الأخرى، بل وأيضا قبل غيرنا في الدول العربية الأسبق للتمدن مثل مصر وسوريا (بدأ البث فيهما بالتزامن في عام 1960 أثناء وحدة البلدين)، ولبنان ( لم يعرف التلفزيون إلا في عام 1959).

فبسبب تلفزيون أرامكو، أُتيحت لنا فرصة مشاهدة جملة من أروع افلام السينما العربية مع مجموعة مختارة من كلاسيكيات هوليوود، وذلك من خلال شاشة صغيرة داخل أجواء المنزل الحميمة. عرفتنا هذه الافلام على مصر بحياتها الراقية وعزبها وقصورها وباشاواتها وفللها ومباهجها الكثيرة فصار الواحد منا يسعى جاهدا للنجاح والتفوق كي يتخرج سريعا ويذهب الى مصر لاستكمال تعليمه الجامعي هناك ولرؤية ما شاهده في الافلام على الطبيعة. وأتذكر أن الهوس بالأفلام العربية ونجومها كان يدفعنا إلى انجاز كل واجباتنا المدرسية مبكرا كي نكون في حل من أي أمر يحول بيننا وبين التسمر أمام الشاشة الصغيرة لمشاهدة الأعمال الكوميدية والدرامية وخلافها.

كما شاهدنا من خلال تلفزيون ارامكو افلاما مثل «ظهور الاسلام» و«واسلاماه» و«خالد بن الوليد» وغيرها من الافلام التاريخية التي عرفتنا على جوانب مضيئة من تاريخنا الاسلامي. وشاهدنا أيضا مجموعة من الأفلام التي بثت الحماس لدينا وعرفتنا على ممارسات الاستعمار والاقطاع في بعض الدول العربية مثل أفلام «جميلة بوحيرد» و«رد قلبي» و«الله معنا» و«بورسعيد». أما الافلام والمسلسلات الغربية المنتقاة بعناية فقد عرفتنا على انجازات الغرب الحضارية ورفاهية شعوبه والكثير من قيمه الحميدة. 


وجملة القول ان تلفزيون ارامكو ظل لسنوات طويلة يمثل المصدر الوحيد عند الكثيرين، ليس للتثقيف والتوعية والترفيه فحسب، وإنما أيضا للإطلالة على السينما العربية والعالمية، الأمر الذي ساهم في الارتقاء بحسهم الفني وحصيلتهم المعلوماتية عن الحياة خارج نطاق الخليج والجزيرة، او خارج مجتمعاتهم المحلية الريفية أو الصحراوية المعزولة. 


ومن مظاهر تأثرنا، ونحن صغار، بمشاهداتنا للأفلام السينمائية من خلال الشاشة الصغيرة أن ساحات المدارس وملاعبها كانت تتحول، اثناء فترات الراحة ما بين الحصص الدراسية، إلى ما يشبه المسارح المفتوحة.. يقلد فيها الصغار ما رأوه البارحة من أفلام رعاة البقر بخيولها وقطعانها ومطارداتها وهنودها الحمر، أو يقلدون ثنائيات الخير والشر التي كان يجسدها فريد شوقي ومحمود المليجي، وثنائيات الكوميديا التي كان بطلاها إسماعيل يس وعبدالسلام النابلسي، الأمر الذي اكتشف معه المعلمون مواهب فنية صالحة للتمثيل من على خشبة المسرح المدرسي.