حازم صاغية

من يسترجع تاريخ الهجاء العربيّ لأميركا يظنّ أنّ دونالد ترامب كان دائماً رئيس الولايات المتّحدة، فالهجاء هذا أقلّه منذ أواخر الستينات، يفترض الترامبيّة، أي يفترض الأسوأ والأحطّ في كلّ الرؤساء الأميركيّين الذين تعاقبوا على البيت الأبيض.

وتبعاً للهجاء المذكور، ليس ثمّة فارق يستحقّ الوقوف عنده بين دونالد ترامب وسابقيه، لا حيال الإسلام والمسلمين، ولا حيال الاستيطان اليهوديّ ومدينة القدس، ولا حيال الهجرة والمهاجرين، أو اللجوء واللاجئين. وهذا فضلاً عن تجاهل الفوارق الكبرى التي تطاول مسائل الديموقراطيّة والإعلام والتجارة والحرب والقوميّة والتعذيب وبناء الجدران وسواها.

لقد كنّا، حين نهجو أميركا، نهجو ترامب قبل أن يولد ترامب، والترامبيّة قبل أن تنشأ.

في المقابل، هناك مدرسة المديح لأميركا، وهي ضعيفة عموماً في أوساط المثقّفين والكتّاب، وقويّة نسبيّاً في أوساط الحكّام. وهذه بدورها، مباشرةً أم مداورة، كان من المستحيل أن تتوقّع ترامب. ذاك أنّ الولايات المتّحدة، بما هي أرض الامتياز والعظمة وسائر الفضائل المطلقة والبسيطة، لا يمكن أن تنحطّ وأن تنتج ظاهرة رديئة رداءة ترامب والترامبيّة.

والرأيان لا يمهّدان للمعرفة بدقّتها أو باحتمالاتها، ولا يُرشدان بالتالي سياسات تكون مفيدة ومرنة في آن معاً. ذاك أنّهما وإن استعانا بنُتف أيديولوجيّة حديثة في تفنيد أميركا وفي الدفاع عنها، يشتركان في قيامهما على الهجاء والمديح، أي على تعبيرين عصبيّين وإطلاقيّين. أوّلهما تلوح له أميركا راسخة وجوهريّة في شرّ، إمبرياليّ أو استشراقيّ... تحتكره وحدها، لا ينازعها أحد عليه، والثاني يرسمها تتويجاً للتقدّم السائرة وحدها إلى غايته المرسومة سلفاً، فيما نحن وحدنا من يحتكر التخلّف والضلال وشرورهما. وليس من الصعب استشفاف أنّ قضيّة جزئيّة ما، كائنة ما كانت أهميّتها، تقف وراء كلّ من التأويلين الإطلاقيّين: فالهجّاء يستند إلى المسألة الفلسطينيّة – الإسرائيليّة (مع أن الأيام الأخيرة أثبتت كم أن الموضوع هذا خلافيّ في أميركا نفسها...)، أما المداح فيستند إلى الازدهار والاستقرار (وهو أيضاً ما يتبيّن اليوم أنّه قابل للهشاشة في أميركا، وفي العالم بسبب أميركا...).

وكثيراً ما يبدو أصحاب الرأيين، ونحن نرى ما نراه راهناً، متناقضين ومتهافتين داخل رأييهما: فهجّاء أميركا الدائم قد يزلّ به اللسان فيبدي خشيته من تخلّيها عن القيادة الكونية!، فيما مدّاحها الدائم يرتدّ إلى مناجاة عاطفية يتخلّلها الشعور بالفجيعة، من دون أن يكتم خوفه عليها، هي التي كانت حتى الأمس القريب كليّة القدرة.

والحال أنّ أميركا بدت دائماً، وهذه نقطة اشتراك أخرى بين الرأيين، كليّة القدرة: مرّةً من خلال المؤامرات والحروب والفتن، لما فيه الحطّ من الحياة، ومرّة، لما فيه رفعتها.

والآن تتوافر فرصة، يحضّ عليها التاريخ والواقع والمقارنة، للقطع مع هذين التقليدين العريقين في التأويل، وللتحوّل إلى مقاربات أشدّ صلة بالواقع وأقرب إلى وصف أميركا بعناصر قوّتها وعناصر ضعفها، وبنزاعاتها واحتمالاتها وإمكاناتها، ومن ثمّ فرص التدخّل للتأثير فيها.

وإذ تتبدّى أميركا موضوعاً للسياسة أكثر من أيّ وقت سابق، يتبدّى النزاع حولها وحول صورتها ووظائفها موضوعاً سياسياً أيضاً، يندرج فيه الأميركيّون أنفسهم قبل أن يندرج غيرهم. والانقسام هذا، حول الحرية والمساواة وحقوق الإنسان، يحجز موقعاً للعرب يستحقّ أن يشغله العرب بعد طول سباحة في الجبل وتسلّق في البحر.