حسن حنفي

إلى جانب سيادة الإسلام «المحافظ» الذي يسمى أحياناً بالإسلام التقليدي، ووسط انتشار ما يسمى الإسلام «الأصولي» بفعل تركيز المستشرقين والقوى السياسية الغربية عليه، والذي يسمى أحياناً أخرى الإسلام «السلفي» أو الإسلام النصي، ومن ثنايا الخطاب الإسلاموي العنيف المؤسس للإرهاب في الداخل والخارج، وسط هذا الركام كله يبرز الإسلام المستنير كإسلام مغاير، يدعو إلى الحوار الوطني وبناء الجسور بين كل الأطراف المتنازعة.

ومهمة الإسلام المستنير هي إزالة الاستقطاب عن طريق إقامة حوار فعلي ضمن النسيج الوطني من أجل مصالحة تاريخية بين الدولة وخصومها، وإعادة ترتيب البيت من الداخل من أجل إقامة جبهة أو ائتلاف وطني عريض ضد المخاطر الخارجية، وأقلها خطرا الغزو المباشر من الخارج بدعوى تخليص المنطقة من بعض النظم التسلطية حتى ولو على أسنة الرماح كما حدث في العراق من أجل إقامة نظم «حرة» و«ديمقراطية»! وحماية الجبهة الداخلية من شق الصف الوطني، وتحقيق المشاركة السياسية للجميع. ومهمته أيضاً تحقيق حوار وطني بين مختلف القوى والأحزاب السياسية في البلاد دون هذا الخصام المفتعل بين التيارات السياسية، صراعاً على السلطة إذا ما ضعفت الدولة، وعجزت اختياراتها السياسية عن تحقيق الاستقلال الوطني ومصالح الشعوب.

مهمة الإسلام المستنير أيضاً إفراز نوع من التعددية الفكرية والسياسية داخل التيارات السياسية. فالحوار الداخلي بين الأجنحة داخل كل تيار يقرب التيارات بعضها من بعض. والعلمانيون مثلاً ليسوا تياراً واحداً، فهناك علمانيون يقبلون الإسلام الليبرالي والوطني والعقلاني والتقدمي والاشتراكي.

والإسلام المستنير ليس تياراً واحداً، بل تتعدد تياراته وأسماؤه. فهو الإسلام التجديدي أو العقلاني، سليل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبدالرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد. وهو الإسلام الليبرالي الديمقراطي أو حتى العلماني عند علي عبدالرازق وخالد محمد خالد.

وهو «اليسار الإسلامي» الذي يعيد فهم الإسلام بناء على تحديات العصر السبعة الرئيسة: استكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق.. الخ، وتحرير المواطن من كل صنوف القهر الديني والسياسي والاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية بدلاً من التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وإقامة وحدة الأمة عن طريق التجمعات الإقليمية العربية والإسلامية ضد مخاطر التفتيت والتجزئة العرقية والطائفية التي بدت في العراق وسوريا واليمن وتهدد لبنان والمغرب العربي ومصر ذاتها كي تبقى إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة. والتنمية المستقلة المتكاملة لما تتمتع به المنطقة من رؤوس أموال وطاقة وأسواق وعقول للتخطيط، والدفاع عن الهوية الوطنية ضد مخاطر التغريب والهويات العرقية والطائفية الزائفة، وأخيراً حشد الناس لإشراكهم في العمل الوطني التاريخي بدلاً من تهميشهم.

وهو الإسلام التعددي الذي لا يحتكر الرأي ويسمح بأكبر قدر ممكن من الاختلاف الذي هو حق شرعي في بعض الأحيان، فالكل راد والكل مردود عليه. والصواب متعدد وليس في صالح فريق دون فريق. يحيي التعددية القديمة التي كانت وراء الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، فرق كلامية، مذاهب فقهية، طرق صوفية، تيارات فلسفية، اتجاهات تفسيرية، مناهج للرواية وطرق للدراية بدلاً من أن يزهو الغرب علينا بأنه هو الذي أعطى العالم قيم التعددية.

وأخيراً، هو الإسلام الواقعي الذي يبدأ من مصالح الناس وما تعم به البلوى، وما يمس كل إنسان، وتتأثر به كل أسرة. هو الإسلام الذي يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص كما تفعل المالكية اعتماداً على الاجتهاد في صوره المتعددة من قياس واستحسان واستصحاب ومصالح مرسلة. هو إسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي يوقف حد السرقة عام المجاعة، ويوقف توزيع أرض السواد في العراق على المحاربين. هو الإسلام الذي لا يخشى في الله لومة لائم. يجهر بالحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.