نصر محمد عارف

انتشرت فى مصر، فيما بعد يناير 2011، ثقافة جديدة تقوم على قاعدتين هما؛ أولا: أن الشأن العام؛ المتعلق بمصالح الوطن ومستقبله يحدده نشطاء وسائل التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت، ونشطاء السبوبة السياسية فى برامج التوك شو على فضائيات رجال أعمال عصر الانفتاح، وهؤلاء هم وحدهم الذين يملكون مفاتيح المعرفة، ويتحكمون فى أختام الوطنية، وبعبارة موجزة يملكون مصر، وباقى الشعب ضيوف عندهم، وثانياً: أن الوطنية الحقيقية تكون بالدفاع عن الحكومة، وصب اللعنات على من يعارضها، وأن الحرية الحقيقية تكون بالهجوم على الحكومة والرئيس والدولة، وتحويل كل ما يحدث فى مصر إلى حالة من السواد الحالك؛ التى لا يجد معها الإنسان البسيط أى أمل فى غدٍ؛ سواء أكان مشرقا أم تلبده الغيوم. وحقيقة الأمر أن الشأن السياسى هو أعظم شئون المجتمع وأكثرها تعقيدا، لأنه يحتاج إلى من يملك الرؤية الكلية، ويستطيع أن يلم بجميع أطراف الصورة، ويمزج بدقة بين مكونات المعادلة الاجتماعية جميعها، ويكون قادرا على ربط التاريخ بالحاضر وبالمستقبل، والإلمام بتعقيدات الجغرافيا وفرصها وضغوطها، لذلك تعارفت جميع جامعات العالم على ألا يلتحق بدراسة العلوم السياسية إلا النابهون من الطلاب؛ الذين حققوا معدلات مرتفعة فى تطورهم التعليمي… أما فى مصر فقد انقلبت الصورة تماما، وصار الشأن السياسى عند جميع الأطراف من مستحقرات الأمور يفتى فيه كل أحد، ويتولى مناصبه الرفيعة كل أحد، وللأسف هذا هو سبب الارتباك الذى تعيشه مصر على جميع الأصعدة، وفى جميع المجالات. والناظر فيما يحدث فى مصر منذ ثورة 30 يونيو 2013 يجد أن هناك مزيجا غريبا من النجاحات المبهرة فى بعض المجالات، إنجازات لم تحدث منذ عصر محمد على باشا، أو عصر جمال عبدالناصر، وفى الوقت نفسه هناك بؤس شديد وفشل ذريع فى مجالات، زادها الزمن سوءا وانهيارا، قطاعات البنية الإستراتيجية للدولة من الطرق والكباري، والمدن الجديدة، والمطارات، ومحطات توليد الطاقة، وإعادة الاعتبار لبرامج الطاقة النووية، وبرامج الفضاء، وإعادة بناء القوات المسلحة…الخ جميعها قطاعات شهدت طفرات ونجاحات لم تحدث منذ زمن طويل… وفى المقابل هناك قطاعات كالصحة، والتعليم، والمواصلات، والرعاية الاجتماعية، وإصلاح النظام الإدارى ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة الناجزة….إلخ، جميعها قطاعات لم تزل متعثرة. 

ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقدمها التجربة اليابانية فى تاريخها المبهر العظيم … لليابان قصة مع الصعود والهبوط، مع التقدم والقوة ثم الانهيار إلى حد الدمار… ثم النهوض بسرعة فائقة، والقفز خطوات إلى العلا حتى تصير على قمة هرم العالم…فماذا حدث فى اليابان يتعلق بمصر وما تمر به اليوم؟ 

القصة يا سادتى الكرام… أنه كان فى اليابان خطوط سكك حديدية للقطارات بدأت منذ 1872، ثم انهارت تماما مع الحرب العالمية الثانية، وبدأ بعدها نوع من الترميم والإصلاح، والتوسعة لهذه الشبكة، وفى لحظة حاسمة فى ستينيات القرن الماضى وجدت اليابان أن فكرة الإصلاح والترميم مكلفة جداً، ولا تحقق الاستدامة، فما يتم إصلاحه اليوم يتعطل بعد فترة …وهكذا، لذلك قررت أن تترك القديم كما هو يعمل فى حدود طاقته دون أن تنفق كثيراً على تجديده، وتطويره، وأن تنشئ خطوط سكة حديد جديدة بقطارات جديدة تقوم على تكنولوجيا جديدة، تعمل بالطاقة النظيفة، وليس بالمازوت أو الفحم، وأن تترك للناس حرية الاختيار بين القطار القديم والقطار الجديد، وكلاهما يذهب لنفس الاتجاهات، وينطلق من أماكن متقاربة. ومع الزمن بدأ الذين يشتكون من سوء القطار القديم وتهالك خدماته ينتقلون لاستخدام القطار الجديد…ومع الزمن ترك اليابانيون القطار القديم كلية، ودخل هذا القطار المتحف، وتم تفكيك سكته الحديدية، وانتهى القطار القديم….وصارت هذه التجربة نموذجا ومثلا عالميا، يطبقه الناس فى كل مناحى الحياة، ففى التعليم مثلا، يقولون …الأفضل أن نتبع نظرية قطار اليابان الجديد؛ أى أن يتم بناء نظام تعليمى جديد مواز للنظام القائم، يقوم عليه مدرسون وإداريون تم تدريبهم وتكوينهم بطريقة جديدة تختلف عن النظام القائم، ومع الزمن يسلك سلوكهم ويتدرب مثلهم من أراد أن يلتحق بالنموذج الجديد أو القطار الجديد، وكذلك فى تطوير وتعمير المدن…الخ. 

جميع مجالات الحياة تنطبق عليها نظرية قطار اليابان الجديد، وهذا ما يجب أن تسير فيه مصر فى قادم أيامها، لذلك لابد من التوقف كلية عن إهدار الأموال على القطار القديم، أو على ما هو قائم مصر تحتاج أن يتم إنشاء موازيات لكل ما هو موجود، نحتاج إنشاء مستشفيات جديدة بمفاهيم جديدة يقوم عليها أطباء وهيئة تمريض وإدارة جديدة، ونحتاج إنشاء مدن جديدة بمفاهيم حياة جديدة، ونترك ما هو قائم حتى تتوازن كثافته السكانية مع إمكاناته الموجودة حالياً؛ حينها يمكن الإصلاح والترميم. نحتاج سكك حديدية جديدة بمفاهيم وتكنولوجيا ومسارات وإتجاهات جديدة. 

مصر تحتاج إلى أن تتبع نظرية قطار اليابان الجديد، وإلا سنظل نستنشق دخان فحم القطار القديم حتى يقتلنا السواد.