خلف علي الخلف

مقولة الاحتكار السني التاريخي للسلطة في المنطقة تتجاهل الممالك والدول التي حكمت أجزاء واسعة من الامبراطورية الإسلامية وامتداداتها في فترات تاريخية متعاقبة، ولم تكن تتبنى المذهب السني

كثيرة هي مراكز الأبحاث والدراسات الأكاديمية الغربية المختصة بشؤون منطقتنا، حيث تغطي كافة تفاصيل المنطقة، حتى تلك التي لا نلقي لها بالا؛ منها ما هو «مستقل» ومنها ما يخدم توجهات دولة أو حزب أو جماعة ضغط! تنتج مواد، وأبحاثا، وكتبا حديثة وآنية مواكبة لتطورات المنطقة؛ حيث يدرس الباحثون والطلبة أيضا قضايا راهنة بعضها ما يزال مشتعلاً. لا يمكن مقارنة الأمر مع بلداننا، حيث تخمر القضايا لربع قرن على الأقل قبل تناولها. ويبقى المنهاج الأكاديمي والمدرسي فترات طويلة، يتغير خلالها العالم ليس سياسياً فقط بل جغرافيا أيضاً! ويتناول باحثونا عادة قضايا حدثت قبل نصف قرن على الأقل فلا يزعجون أحداً. بل هناك قضايا ما يزال الاقتراب منها محرماً رغم مرور أكثر من ذلك. 

وكي لا يظن البعض أن منطقتنا يسلط عليها الاهتمام؛ لنسج المؤامرات وتركيب المصائب أكثر من كل مناطق العالم، فإن قضية صعود الصين هي إحدى القضايا الأكثر تداولاً –كميّاً- في الإعلام الغربي منذ وجوده حتى الآن!

إحدى قضايا المنطقة التي تحظى باهتمام هذه المراكز، هي ما يطلقون عليه الصراع الديني في الشرق الأوسط، أو الصراع الطائفي، أو الصراع السني- الشيعي على وجه التحديد. ورغم المنهجية المنضبطة في إجراء البحوث؛ إلا أن نسبة منها لا بأس بها، عندما يصل الأمر للشق التطبيقي أو حتى التفسيري تغرق في نقص المعلومات أو نقص الخبرة في شؤون المنطقة أو سوء الفهم. وتكاد تكون المراجع العربية في هذه الأبحاث نادرة! بعكس المراجع التي تعكس وجهة النظر الإيرانية.

تتنازع تفسير «الصراع الديني» في المنطقة عدة وجهات نظر؛ فهناك باحثون يرون أن مسببات الصراع الحالية تكمن في الوجود الطائفي نفسه، أي في الانقسام الديني بذاته، أي أنه انعكاس طبيعي لتعدد الهويات المتصارعة، والمحفزات الخارجية تلعب دورا مساعدا! وغالباً يشار للدور السني باحتكار السلطة – تاريخياً - كأحد مسببات الصدع الطائفي. 

مع الاحتلال الأميركي للعراق وقبله، كان هناك موجة من الدراسات والأبحاث قرأت الصراع الطائفي في العراق وامتداداته الإقليمية، كثير منها جعل اضطهاد صدام لشيعة العراق الجذر الأساسي للمشكلة الطائفية في العراق! تبعتها موجة أخرى انطلقت بعد الاضطرابات التي عمت عدة بلدان عربية بعد الربيع العربي، وترى أن فشل الدولة في تلك البلدان حفز الصراع الطائفي على السلطة ومثل فرصة لشيعة المنطقة بدعم من إيران للحصول على حقوقهم!

وباختلاف توجهات الباحثين، فإن كثيرا منهم عندما ينظرون للمنطقة من خلال حقل «المصالح»، يختزلون الصراع في منطقة مركبة إثنيا أو مذهبيا أو عشائريا، وتتنازعها مستويات متعددة من طبقات الهوية، إلى صراع سني- شيعي. تقود الطرف الأول السعودية بينما يخضع الطرف الثاني لقيادة إيران. 

ربما يسهل هذا الاختزال التناول الإعلامي، لكنه لا يقدم تفسيرا للصراع في الشرق الأوسط، ولا جذوره. فمقولة الاحتكار السني التاريخي للسلطة في المنطقة تتجاهل الممالك والدول التي حكمت أجزاء واسعة من الامبراطورية الإسلامية وامتداداتها في فترات تاريخية متعاقبة، ولم تكن تتبنى المذهب السني، حيث يبدد هذا المظلومية التاريخية الشائعة. وفي الفترة المعاصرة نادراً ما يركز الباحثون على أن مأسسة الطائفية سياسياً في دول المنطقة الحديثة 

قد بدأ مع الثورة الإيرانية، التي يشار لها عمداً في الأدبيات الإيرانية الرسمية بـ«الثورة الإسلامية» لإعلاء طابعها الإسلامي وخفض طابعها الوطني كإحدى وسائل ترويجها، كما يتم تجاهل حقيقة دامغة في هذه الدراسات بأن إيران هي الدولة الدينية المذهبية الوحيدة دستوريا في الشرق الأوسط، وأسست للصراع الطائفي قبل ظهور المجموعات المتطرفة والإرهابية المحسوبة على السنة. 
لكن الأهم من وجهة نظري هو أن النظر للصراع في المنطقة من خلال العدسة الطائفية يخفي أكثر ما يكشف. فرغم تسخير إيران للبعد الطائفي واستغلاله في محاولتها للهيمنة على المنطقة فإنها وبشكل دائم أدارت سياستها الخارجية وفقاً لمصالحها، وعند حدوث تناقضات بين هذه المصالح والإيديولوجيا التي تتبناها تعطي الأولوية للمصالح، وما إيران - كونترا ببعيدة، ولا يمثل البعد الطائفي في سياسة إيران إلا إحدى وسائل السياسة لتحقيق المصالح.