إدريس لكريني

بعد حصوله على الاستقلال، أكد المغرب في عام 1958 مغربية الأقاليم الصحراوية، وطالب بضرورة تصفية الاستعمار في هذه المنطقة.

إلا أنه لم يتمكّن من طرح قضية المطالبة برحيل إسبانيا عن أقاليمه الجنوبية أمام الأمم المتحدة إلا في سنة 1964، وقد تجاوبت الجمعية العامة بشكل إيجابي مع هذه المطالب، عندما حثّت إسبانيا على منح الاستقلال لهذه المناطق انسجاماً مع قرارها رقم 1514.

عمدت إسبانيا في بداية السبعينات من القرن الماضي على تشجيع المدّ الانفصالي بهذه الأقاليم، وهو ما اعتبره المغرب حينئذ أمراً يتعارض بشكل صارخ مع حقوقه الشرعية على ترابه، ولم يتردد في مواجهة ذلك، حيث عمل على مواجهة هذه المحاولات، وسارع إلى توضيح حقوقه وشرح مواقفه وتفنيد المواقف المعادية، كما حذر كلاً من الجزائر وموريتانيا من مسايرة الطرح الإسباني المنحرف.

وتعززت جهود المغرب تجاه تأكيد حقوقه على أقاليمه الجنوبية، بعدما أصدرت محكمة العدل الدولية في «لاهاي» رأيها الاستشاري بتاريخ 16 أكتوبر 1975، الذي أكدت فيه أن الصحراء لم تكن إبان احتلالها من قبل المستعمر الإسباني أرضاً خلاء ولا مالك لها، واعترفت بوجود روابط قانونية وعلاقة ولاء تجسّدها البيعة بين مختلف القبائل الصحراوية وسلاطين المغرب..

وفي السادس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1975 سيشهد المغرب تنظيم المسيرة الخضراء بمشاركة 350 ألف مواطن متطوّع باتجاه الصحراء، اخترق معها المشاركون الحدود المصطنعة التي كانت تفصل بين المغرب وهذا الإقليم تحت أنظار القوات الإسبانية، التي لم تعد قادرة على الاستمرار في معاكساتها لمطالب المغرب الرامية لاستكمال وحدته.

شكّلت المسيرة الخضراء حدثاً تاريخياً مهمّاً في تاريخ المغرب الحديث، فهي تجسيد لأسلوب حضاري راق لتدبير الأزمات، مثّل في مضمونه حدثاً سلمياً استثنائياً خلال مرحلة دولية حبلى بالتوتر والحروب واعتماد الأساليب الزجرية في تسوية المنازعات..
إن الاحتفاء بالذكرى يجسّد مناسبة لاستحضار أبعاد هذه المبادرة الوازنة في أوساط الجيل الحاضر كسبيل لترسيخ قيم المواطنة، وتقييم مسار القضية بمكتسباتها وإشكالاتها.. في ارتباط ذلك بالإصلاحات السياسية وجهود التنمية المبذولين، والأداء الدبلوماسي في مواجهة التحرشات المختلفة التي يباشرها الخصوم عبر ترديد المقولات التقليدية المتصلة ب «تقرير المصير»، وبخاصة بعد طرح المغرب لمشروع الحكم الذاتي الذي يجسد حلّا توفيقياً واقعياً يوازن بين خياري الاستقلال والوحدة..

جاء الخطاب الملكي في هذه الذكرى ليؤكّد تشبّث المغرب بحقوقه التاريخية والسياسية في الصحراء، مبرزاً أن تدبير الملف وكسب رهاناته يمرّ عبر مدخلين أساسيين، الأول، داخلي ينبني على المقاربة التنموية بما تحيل إليه من إدماج للشباب وانفتاح على قضاياهم المختلفة، وإطلاق المشاريع الاقتصادية التي ستعزز من موقع الأقاليم ومن مكانتها كبوابة وصلة وصل مع المحيط الإفريقي، انسجاماً مع التوجهات المغربية الداعمة لهذه العلاقات في إطار تعاون متوازن يعزز مصالح الجانبين.

واقتناعاً بحيوية التنوّع المجتمعي وما يجسّده من رأسمال يدعم تطوير الممارسة الديمقراطية وتحقيق التنمية بكل تجلياتها، وباعتباره إحدى سمات هوية المجتمع المغربي الغنية بتركيبتها المتنوعة في بعدها الأمازيغي والإسلامي والعربي والحساني والإفريقي.. فقد أكّد الخطاب أهمية تدبير هذا التنوّع بصورة بنّاءة وسليمة تدعم وحدة الدولة والمجتمع..

أما المدخل الثاني، فهو خارجي، ويقوم على الالتزام بالانخراط في الدينامية التي تطبع توجّه الأمين العام الحالي للأمم المتحدة بصدد الموضوع، مع التأكيد على ثوابت المغرب المطروحة في هذا الإطار في ارتباطها بمشروع الحكم الذاتي الذي لقي استحساناً من قبل الأمم المتحدة نفسها وعدد من القوى الدولية الكبرى، وضرورة انخراط بعض الأطراف الإقليمية، بحسن نية، في توفير الأجواء السليمة لبلورة حلّ واقعي مستدام، والالتزام بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة باعتباره الإطار الدولي الرئيسي والوحيد المعني بهذا الملف. مع الرفض المطلق لأية محاولات تنحو إلى المسّ بالحقوق المشروعة للمغرب، وبمصالحه العليا، ولأي أطروحات متجاوزة من شأنها تحريف القضية عن مسارها.

تتزامن ذكرى المسيرة الخضراء هذه السنة مع رحيل رئيسة البعثة الأممية للصحراء «المينورسو» «كيم بولدوك»، بعد ثلاث سنوات شهدت تأزّماً في العلاقات بين البعثة الأممية والمغرب، وهو ما سيسمح بطيّ صفحة قاتمة طبعت أداء منظمة الأمم المتحدة نتيجة الزّلات التي سقط فيها الأمين العام الأممي السابق «بان كي مون»، بسبب تصريحاته المفتقدة للحسّ الدبلوماسي والمتناقضة مع ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وكذا الانحرافات التي طبعت مضامين التقارير المغلوطة الصادرة بصدد النزاع والمسيئة للمغرب ولمصداقية المنظّمة ذاتها على امتداد سنوات..

ويأتي هذا الرّحيل في أعقاب مجيء أمين عام جديد (أنطونيو جوتيريس) ومبعوثه المكلف بالملف (هورست كوهلر)، بما يعنيه ذلك من توجّهات جديدة لن تسقط في تكرار أخطاء وهفوات زملائهم السابقين، والتي أفرزت أزمة حقيقية بين المغرب والأمانة العامة السابقة للمنظمة.. وهو ما سيسمح أيضاً بخلق أجواء جديدة من الثقة التي يمكن أن تنعكس بالإيجاب على مسار الملف..

إن هذا التغيير الذي يتزامن مع المكتسبات التي حققها المغرب على مستوى تطوير علاقاته مع محيطه الإفريقي بعد الانضمام للاتحاد الإفريقي وتوجهاته للانضمام للسيدياو، سيدعم موقع المغرب في مواجهة خصومه على مستوى هذه القضية، غير أن كسب هذا الرهان يتأسّس في عمقه من عدالة الطرح المغربي، بما يفرض تجنيد كل الإمكانات والطاقات عبر تعزيز السياسات العمومية الداعمة لجهود التنمية بهذه الأقاليم والاستمرار في تعزيز الإصلاحات السياسية، وبلورة سياسة خارجية منفتحة ومبادرة مدعومة بدبلوماسية موازية يقظة.