أخيراً.. سفينة العراق تتجه نحو مرافئ المملكة

حمد المانع

هذا القدر الكبير من الروابط بين بلدين جارين تاريخيين كانا منذ صدر الإسلام قطبي الأمة الإسلامية، يجعل منهما جسداً واحداً مهما سعت خناجر الوقيعة والدعاوى العرقية لتمزيق أواصره..

ثمانمائة كيلومتر حدودية من شأنها أن تجعل من المملكة العربية السعودية وشقيقتها الجمهورية العراقية توأماً ملتصقاً في ظل قواسم مشتركة تاريخية، وثقافية، وقبلية، وقبل هذا وبعده، قواسم دينية، جميعها تقدم قراءة ثابتة لا تنال منها النزاعات أو فترات الجفاء، فهذا القدر الكبير من الروابط بين بلدين جارين تاريخيين كانا منذ صدر الإسلام قطبي الأمة الإسلامية، يجعل منهما جسداً واحداً مهما سعت خناجر الوقيعة والدعاوى العرقية لتمزيق أواصره، تمهيداً لفصله، لكن تجربة السنوات الماضية وما قبلها أثبتت بما لا يدع مجالاً للهواجس، أنه جسد قوي عصي شديد المناعة، تكسرت عليه النصال تلو النصال، فلم تنل من قدرته على الالتئام والعودة صحيحاً قوياً من جديد.

تحدثت كثيراً عن هذه الأهمية الوجودية والمصيرية لبقاء هذين البلدين معاً من أجل بقاء الشرق الأوسط كله، وليس من أجل بقائهما وحسب، لكن حديثي اليوم، ليس كحديثي قبل نحو عام في أكثر من مقال، كانت بمثابة ضوء أحمر قوي لتحذير التوأم السعودي العراقي من محاولات التمزيق وتعميق الفجوة بين قيادتي البلدين، بفعل المخططات الشيطانية الإيرانية لتسريع وتيرة عزل العراق عن محيطه العربي، وليس السني كما يحاول أصحاب الفتنة الطائفية الترويج له، فسنة العراق وشيعته على قلب رجل واحد، لأن العراق العميق، العراق الكبير، العراق العريق، ما كان لمثل هذه الفتن العارضة أن تنال منه، لذا فما أكتبه اليوم أقرب ما يكون إلى تراجع مؤشر الخطر في العلاقة إلى مستويات آمنة، مطمئنة، في ظل التقارب الملموس بين البلدين، والرغبة المشتركة بينهما في عودة العلاقات إلى سابق دفئها.

لا أخفي أنني أشعر بكثير من الاطمئنان في ظل عودة البلدين الشقيقين بإدارة واعية للأزمة من قبل قيادتيهما الحكيمتين، إلى مسارهما الطبيعي الذي انحرفا عنه لظروف إقليمية ضاغطة تعرضت لها المنطقة في السنوات الأخيرة. هذا ما تفرضه معطيات كثيرة في المعادلة الصعبة التي واجهها البلدان، فالعراق بالنسبة إلى المملكة عمق استراتيجي لا يقل أهمية عن اليمن، ولا شك في أن المملكة بالنسبة إلى العراق كذلك. والمملكة والعراق دولتان مسلمتان كبيرتان تملكان الثقل الذي يرجح كفة العالم الإسلامي في مضمار السباق العالمي نحو التنمية والاستقرار وأيضاً القوة، فضلاً عن أن الشواهد التاريخية القريبة تؤكد استشعار البلدين أهمية كل منهما للآخر، فحين تعرض العراق لاعتداء من قبل الخميني عام 1980 عندما قال كلمته الشهيرة بأن تحرير القدس يتم عن طريق العراق، استشعرت المملكة الخطر المحدق بالعراق، ووقفت معه ودعمته بالمال والسلاح حتى تحقق له النصر عام 1988 وكسر شوكة ملالي إيران وإسكاتهم بقوة السلاح العراقي الذي أصبح تقويضه هدفاً لهم فيما بعد، لكن ليس بأيديهم، بل التحايل والتآمر والفتن والدسائس وصفقات الخفاء المشبوهة والدسائس التي تسبب في دخول علاقة المملكة بالعراق في مرحلة فتور بل توتر إبان تولي المالكي السلطة في العراق، ولم يكن الرجل حاكماً وطنياً يبحث عما ينفع بلاده ويوحدها ويحقق لها مصالحها الداخلية والإقليمية، بل كان موظف إيران في العراق يأتمر بأمر الخامنئي، وكانت فترة حكمه من أزهى سنوات الحضور الإيراني في العراق الذي سعت إيران لتجعل منه ولاية إيرانية، أو حديقة خلفية لها، وقد نجحت في ذلك كثيراً بفعل ولاء الرجل التام لأولياء نعمته في طهران، فهيمنت إيران على مفاصل الدولة العراقية، حتى باتت هي التي تعين الوزراء، وأصبحت العراق تحت الهيمنة الإيرانية أشبه بلبنان زمن حافظ الأسد، لكن الحال تبدلت كثيراً بعد مجيء العبادي إلى سدة الحكم فصارت بوصلة العراق تسترد إحداثياتها الطبيعية تدريجياً نحو توأمها القديم وبدأت أشرعتها تتوجه إلى مينائها الآمن، وبدورها رحبت المملكة بالعود الأحمد للشقيقة العائدة من جراحها الموجعة إلى حضن شقيقتها المملكة العربية السعودية، وسط ترحاب واسع من الشعب العراقي بجميع أطيافه، سنة وشيعة، فلم يكن العراق يوماً قسمين، ربما هذا ما أريد له، ووضعت له أجندات سوداء، لكن وعي الشارع العراقي الكبير حال دون تمرير هذه المخططات عليه، لأنه يعلم أن وحدته الوطنية تميمة وجوده، وضمانة استقراره وعودته إلى مرافئ الأمان، وإن تلاعبت به الأمواج، نعم ما نراه الآن مؤشرات إيجابية، لكن العراق أخيراً يمم وجهه شطرنا، وهذه هي أهم مرحلة في المعادلة المعقدة التي استعصت علينا طويلاً، والتي أرى أنها في طريقها إلى خطواتها النهائية، بإقامة المزيد من الجسور مع بغداد، حتى لا يلتف عليها أذناب طهران من جديد.