أحمد محمود عجاج

تدعي إيران أنها انتصرت، ونسمع ذلك مراراً من مسؤوليها، وأنها تسيطر على أربع عواصم عربية! تقول قاعدة الفيزياء إن التمدد يعقبه تقلص، ويخبرنا قانون السياسة (نظرية ثيوديسيس) أن زيادة دولة لقوتها تستتبع زيادة الدولة المجاورة لقوتها، بهدف منع الإخلال بموازين القوى. فهل ميزان القوى يميل إلى كفة إيران أو أنه مُتقلّب؟

إن تمدد إيران منبعه الفكر الثوري الخميني، ومنهجيته تقوم على تفكيك الدول المجاورة للاستحواذ على قرارها السياسي، ونهب خيراتها. هذا المنطق الثوري الإيراني دفع كسينجر إلى أن يقول في كتابه الأخير إن إيران عليها أن تقرر: إما أن تكون دولة تخضع للقوانين الدولية، وإما أن تكون ثورة دائمة! 

كما يبدو، قرر ترمب (المتأثر بكسينجر) أن يتعامل مع إيران على خلاف سلفه أوباما الذي تعامل مع إيران بصفتها دولة عادية يراها توازن في أولويات مصالحها، وتغير سياساتها الاستفزازية. ترمب يرى أن الاتفاق النووي كان خطأ كبيراً، لأنه فصل بين السلاح النووي الإيراني وتمددات إيران في المنطقة وتجاربها الصاروخية البعيدة المدى؛ هذا الفصل وفر حافزين لإيران: أولاً، أعطاها عائدات مالية ضخمة من جراء رفع العقوبات، وثانياً، أغراها بالتوسع أكثر في المنطقة، ومعها تهديد المصالح الأميركية، لهذا قال وزير الخارجية الأميركي تيلرسون لنظيره الإيراني ظريف في اجتماع بالأمم المتحدة في أواخر شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، إن النظام الإيراني منذ وصوله للسلطة في عام 1979 يعادي أميركا، ويشن هجمات إرهابية، وعدّد ما فعلته إيران بالأميركيين وحلفائهم. 

قاطعه جواد ظريف قائلاً: نحن لدينا قائمة أيضاً، فرد تيلرسون: لقد شاب شعري، وزاد وزني ولا أعرف إلا هذا عنكم، ولا أتصور أننا سنصل إلى حل، ربما قد يتوصل جيل غيري أو جيل بعدي. يُظهر ذلك أن الصبر الأميركي وصل مداه، وأن التعامل مع إيران لا يمكن أن يكون وفق أدوات سابقة ثبت فشلها؛ لهذا لن يتجاهل ترمب حلفاءه العرب، كما فعل أوباما، وستتأسس استراتيجيته على الاحتواء التدريجي عبر مسارين: التشدد بتصريحاته إزاء السياسة الإيرانية، ودعم الدول المعادية لإيران لمواجهة التوسع الإيراني، علاوة على عقد تحالفات مع دول كبرى مثل الاتحاد الأوروبي وتفاهمات مع روسيا، والصين، لتحجيم الدور الإيراني وفق حدوده الطبيعية.

إن الولايات المتحدة، كما قال رئيس الوزراء التركي في محاضرة بلندن، لا تتعارض سياستها في سوريا مع روسيا؛ هذا يعني أنهما متفقتان على حل في سوريا، وهذا الحل سيغير، في أدنى حالاته، تركيبة السلطة في سوريا، وبذلك تفقد إيران تأثيرها على النظام السوري القادم؛ هذا الفقدان هو خسارة كبرى، لأنه سيكون ضربة لما تسميه إيران الهلال الشيعي، ومن نتائجه تضييق الخناق على «حزب الله»، وتعزيز الدولة اللبنانية، وقد يصبح «حزب الله» حزباً سياسياً بلا أسنان عسكرية. 

كما أن تعميق التحالف الأميركي والعربي مع حكومة بغداد يهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني، من خلال تعزيز الوجود العسكري الأميركي تحت يافطة محاربة «داعش». الهدف الأميركي هو إرجاع الثقة بالنفس إلى حكومة بغداد، وإعادة تشكيل السلطة لتشمل المكون السني، والكردي، بهذه التشكيلة تكسب أميركا نفوذاً، وكذلك حلفاؤها وعلى رأسهم السعودية. كما يجب ألا ننسى أن إسرائيل هي الأخرى معنية بالملف الإيراني، وإن كان لمتطلبات تختلف تماماً عن متطلبات وشروط دول المنطقة، لكن تقاطع المصالح الأميركية الإسرائيلية هو عنصر مهم، لكون إسرائيل قوة عسكرية كبرى، ولتفهم الروس متطلبات إسرائيل.

نشهد أيضاً تأييداً دولياً للمملكة في اليمن، وبالتحديد بعد إطلاق صواريخ على الرياض مهربة من إيران، فمنتقدو المملكة في الغرب خفت أصواتهم، ولم يبق سوى يساريين متشددين في يساريتهم يرفعون الصوت ضدها من منطلق آيديولوجي، وحتى بعض هؤلاء يعترفون بحقها في الدفاع عن نفسها. كذلك غيَّرت أميركا مواقفها في اليمن، وأصبحت أكثر تأييداً للمملكة، ورفعت كثيراً من الحظر على الأسلحة، وتدعم دبلوماسياً توجهات المملكة. هذا الدعم الأميركي منطلقه أن إيران تريد إشغال المملكة في اليمن لحرفها عن مواجهتها في أماكن تمددها الأخرى، وبالتالي فإن مساعدة المملكة في حل أزمة اليمن سيعيدها بقوة أكبر للمواجهة مع إيران.

كذلك لم يعد الاتحاد الأوروبي لاعباً متفرجاً بعدما تحركت فرنسا، وبريطانيا بقوة، لتؤكد أن النشاطات الإيرانية في المنطقة ليست مقبولة، وأن برنامجها الباليستي يجب أن يطرح على طاولة النقاش، هذا الاهتمام الأوروبي يعود لقناعة بأن توسع إيران يفجر المنطقة، وتفجرها يجبر الناس على الهجرة إلى أوروبا التي تكسرت وحدتها لدرجة كبيرة بفعل الهجرة، وبفعل الإرهاب الوافد من منطقة الشرق الأوسط. ويرى الاتحاد الأوروبي أن تراجع إيران إلى حدودها، ووقف دعمها الميليشيات الطائفية، سيخلقان بيئة صالحة للاستقرار، وتأمين عودة اللاجئين، وتحقيق تسوية عادلة تفي بتطلعات الناس، وتضمن أمنهم وحياتهم.

هذا الاهتمام الأوروبي بالمنطقة، ووفق هذه الرؤية، يزيد الضغوط على روسيا التي هي بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي للموازنة مع أميركا، وكذلك لحل خلافاتها معه في أوكرانيا وبالتحديد جزيرة القرم التي لا يعترف الاتحاد الأوروبي بضمها، علاوة على الاتهامات الأوروبية للروس بزعزعة الديمقراطية الأوروبية.

إن تصميم إدارة ترمب على قلب معادلة أوباما في التعامل مع طهران، واقتناع الاتحاد الأوروبي أن الاستقرار في الشرق الأوسط سيساهم في تخفيف الضغوط عليه، وكذلك قناعة موسكو أن التعاون في حل المشكلات بالمنطقة قد يسهل عملية تصالحها مع الاتحاد الأوروبي بداية ثم مع أميركا لاحقاً، علاوة على انتهاج المملكة سياسة مواجهة مع إيران مدعومة أميركياً وأوروبياً، وكذلك بتحالفات عربية، سيؤدي، منطقياً إلى الضغط على طهران بكل الوسائل، لتقبل بأن تعود دولة طبيعية وليست ثورة.

إن الخيار الآن بيد إيران، إن قبلت أن تكون دولة فستحل كل الخلافات معها، وتنال حقوقها باعتبارها دولة مهمة، أما إذا ما بقيت ثورة فإنها ستجد نفسها محاصرة إقليمياً ودولياً، وإذا ما رفعت سقف المواجهة فستدرك بالممارسة أن موازين القوى تبدلت كثيراً.