عواجي النعمي

الاحتساب على القلوب والأفكار لم يكن حصرا على ديانة دون غيرها، فجميع المتشددين والمتنطعين في كل ديانة شوّهوا تلك الصورة الجميلة للاحتساب

الاحتساب في التاريخ الإسلامي منهج جميل بدأ مع عهد الرسالة، وكان يهدف إلى الحفاظ على مصالح الناس، وحمايتهم من الضرر والفساد. 
وكان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أول المشرّعين لهذا المنهج الجميل، عندما كان يمر في الأسواق فوضع يده في كيس من الحبوب فوجد بللا في أسفله، فقال لصاحبه: ما هذا؟، فقال أصابته السماء يا رسول الله!، فقال له: أفلا وضعته في الأعلى ليراه الناس، من غشنا فليس منا.
ظل الاحتساب مقتصرا على حماية المصلحة العامة، وتوجيه المجتمع توجيها صحيحا، ويختلف المؤرخون متى تحول الاحتساب من دور المراقب على شؤون العباد إلى المعاقب على النوايا والأفكار، وعدم قبول الرأي المخالف؟
ويعتقد البعض أن ترك الدور الاجتماعي للاحتساب، كالنصح والإرشاد والتوعية، وتحولهم إلى حاكم على سلوك الأفراد، وإقامة الأحكام على الأفكار والآراء، قد بدأ في عهد الخوارج.
إن الاحتساب على القلوب والأفئدة والأفكار لم يكن حصرا على ديانة دون غيرها، فجميع المتشددين والمتنطعين 
في كل ديانة شوّهوا تلك الصورة الجميلة للاحتساب في تلك الديانات.
«هيباتيا» عالمة الإسكندرية في العهد الروماني، برزت في علم الرياضيات، انشغلت بعلومها ونظرياتها فكانت 
حجة زمانها، ولكن هذا أثار حفيظة الكنيسة، فكل علم أو اكتشاف جديد هو اعتداء على تعاليم الكنيسة! يخافون من استخدام العقل والمنطق، فهذا يكشفهم ويصادر سلطتهم، وليس أسهل من استخدام كلمة «هرطقة أو زندقة أو لبرلة أو تفرنج أو حداثة» لكل من يطالب بالتغيير والإصلاح والانفتاح، فيقتنع البسطاء بمثل هذه الأحكام. 
لقد واجهت «هيباتيا» أبشع نهاية يمكن أن تكون لعالِم أو مفكر أو أديب أو صاحب مشروع تغيير، إذ تتبعها المحتسبون من الكنيسة إلى بيتها، وجَرُّوها من شعرها في الطرق حتى تسلّخ جلدها، فلما وجدوها ما تزال تتنفس علّقوها وسلخوها حية بأصداف البحر، ثم أحرقوها ونثروا رمادها في البحر.
كذلك ما حدث للعالم جاليليو الذي قال بدوران الأرض حول الشمس، فتصدت له الكنيسة وقالت له، إن ما يقوله جاليليو يتعارض مع تعاليم الإنجيل، مع العلم أن جميع الكتب السماوية تدعو إلى التدبر والتفكر والتعلم. 
وأمام هذه الأفكار، خضع جاليليو للإقامة الجبرية، وتمت مصادرة أفكاره ومنعها من التداول، وأحرقوا مذكراته ولم يمنعه من القتل إلا كونه كان مقرّبا من كبير الأساقفة. 
ولم يتم رد اعتبار جاليليو إلا في عام 2008 من الكنيسة التي قدّمت اعتذارها له، وأن أفكاره كانت سببا في تقدم البشرية وازدهارها.
يقول الأديب محمد الماغوط، لم تكن مشكلة البشر يوما مع الله سبحانه وتعالى، فهو يغفر ويسامح، ولكن المشكلة مع الذين وضعوا أنفسهم مكان الله. 
إن الاحتساب الحقيقي، هو إصلاح المجتمع وحمايته من الفساد والتشدد، ومواكبة الحضارة واللحاق بركب الأمم المتقدمة.