عمار علي حسن

جارت العولمة على الديمقراطية، على رغم الادعاءات التي ربطت الاثنتين، وحاولت أن تصور هذا الارتباط باعتباره لازمة أو متلازمة لا تنفصم عراها. كما جارت العولمة أيضاً على الرفاه الاجتماعي للجميع، حين غذّت المعادلة التي تقوم على مجتمع الُخمس الثري والأربعة أخماس الفقراء. وخطاب العولمة لا يعدو كونه هِبة لليمين السياسي في البلدان الصناعية المتقدمة، لأنه يمد له حبل النجاة بعد الفشل الذريع الذي منيت به تجارب سياسته النقدية والفردية الراديكالية خلال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم. ولكن العولمة لم تلبث أن وقعت في أزمة جديدة وطاحنة بدأت في المراكز الرأسمالية الأساسية، وامتدت منها إلى سائر العالم، حتى لو تعافى العالم من هذه الوعكة الكبيرة، فإن الإصرار على نهج العولمة سيفتح الباب على مصراعيه أمام أزمات لاحقة، قد لا تنتهي.

ومن الأمور الخلافية التي نشأت بين الدول الغربية والعالمين العربي والإسلامي في العقود الأخيرة محاولة فرض الديمقراطية عنوة، الأمر الذي تمت ترجمته في أعلى مراتبه عبر الاحتلال الأميركي للعراق في أبريل من عام 2003، الذي أطلقت عليه واشنطن «عملية الحرية للعراق». ومثل هذا التصور يتناسى أن الديمقراطية التي نتجت في الغرب من خلال مسيرة حية على أرض الواقع، دفع البشر ثمنها حروباً وصراعات، لا يمكن أن تفرض بشكل فوقي، في أماكن أخرى، بشكل ميكانيكي، وبمنطق الاستزراع، أو من خلال الحوار، الذي يصبح وسيلة للهيمنة والدفع القسري، لا أداة للتفاعل الحضاري الحقيقي الحر. فالديموقراطية فعل ذاتي يمكن أن يتأثر بالآخر ولكن لا يكون صورة من صور الخضوع له، أو إحدى الرسائل الناعمة للإمبراطوريات تستخدمها في توسعها، وهي مسألة تكررت ملياً في تاريخ الإنسانية، فها هو الباحث الألماني هيرفريد مونكلر يقول عقب دراسة سلوك الإمبراطوريات التي عرفها البشر: «كل الإمبراطوريات ذات العمر المديد اختارت هدفاً لوجودها، وتسويغاً لشرعية هذا الوجود، مهمة ذات بعد تاريخي عالمي، أعني أنها قد زعمت أن لها رسالة ذات أهمية كونية، أو رسالة تنقذ العالم المنضوي تحت لواء الإمبراطورية من الشرور التي عاناها البشر عبر التاريخ... وفي وسع المرء، طبعاً، أن يرى في الرسالة الإمبراطورية المدعية إنقاذ البشر من الشرور، وفي زعم الإمبراطورية العالمية أن لديها تفويضاً إلهياً، نعم! في وسع المرء أن يرى في هذا وذاك مجرد مصطلحات أيديولوجية، وأن يحاول، من ثم إزاحة القناع عن النواة الحقيقية للمشروع الاستعماري، للاستدلال على ما فيه من مصالح مادية دنيئة، يراد التستر عليها عادة».

ومسار فرض الديمقراطية على بعض الدول النامية يتجاهل المطلب الرسمي لدول الجنوب الذي طال أمده، برفضها التدخل في شؤونها الداخلية تارة، ومنح شعوبها الفرصة كاملة للتجريب السياسي وإكمال نضالها من أجل الحرية الداخلية، ومناداتها بضرورة أن تتحقق الديمقراطية في مجال العلاقات الدولية، سواء في تفاعلات الدول، أو في المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية. وقد آن الأوان للحوار الحضاري أن يفرق في قضية الديمقراطية بين «القيم» و«الإجراءات» المرتبطة بها، من دون أن ينكر أحد على الإطلاق أن الديمقراطية من أفضل صيغ للحكم توصل إليها البشر حتى هذه اللحظة. ولا خلاف على أن الإجراءات التي تنصرف إلى ما يضمن المنافسة والنزاهة يمكن تسويقها وتعويمها في أي ثقافة مهما كانت، أما القيم فإنها قد تختلف في الدرجة، أو في رؤية كل أصحاب حضارة أو ثقافة لها. فبعض ما يعتقد فيه بعض الغربيين أنه من صميم الحرية، ينظر إليه الشرقيون على أنه ليس كذلك، مثل حرية استعمال المرء جسده، التي انتهت عند البعض بقبول الشذوذ الجنسي، والإقرار بزواج المثليين! ولكن ما يخص الديمقراطية من نصيب في الحريات الثلاث التي ترتبط بالتفكير والتعبير والتدبير، فلا غبار عليها، وكل ما ينجم عنها هو محل مشاورة ونقاش اجتماعي، لاشك في ضرورته لبناء الديمقراطية.

ولعل النموذج السياسي الغربي المرتبط بالديموقراطية من أفضل الصيغ التي عرفها البشر للحكم حتى الآن، ولكنها ليست صيغة مثالية، وعلماء السياسة والساسة هناك يدركون هذا جيداً، ويعملون على ترميم الشروخ التي لحقت بالبناء الديمقراطي، وحولته في بعض الحالات إلى مجرد شكل براق بلا جوهر حقيقي تتمكن به الشعوب من أن تحكم نفسها عبر ممثلين لها. والمطلوب أن يستلهم كل مجتمع هذا النموذج بحرية وطواعية، ويبذل جهده في سبيل تصحيح خطاه على درب الديمقراطية، لا أن يفرض فرضاً في ركاب مشروع استعماري جديد.