خالص جلبي

اتصلت بي من بغداد بعد هربهم من الموصل. كان صوتها مرتعباً وحزيناً وبين كلماتها تتساقط العبرات. كان حظهم أن يعاصروا قيام دولة «داعش» وبداية انهيارها. قالت، وكانت شاهدة على ما جرى، إن مصدرهم الفقهي هو ابن تيمية ولباسهم سترات أفغانية سوداء يجب أن تكون حاسرة عن الكعبين. أما النساء فعليهن الحجاب المكثف. والسائق الذي تركب معه امرأة مصيره مائة جلدة على ظهره لعدم وجود المحرم، ثم قالت: نجوتُ حين نهرني أحدهم بلبس الجورب، وقال مشدداً النبرة: والقواعد من النساء! ومن يدخن سيجارة عقابه إطباق باب السيارة على أصابعه وخمسين جلدة، وربما إجباره على العمل في المقابر، إذ عليه أن يسويها بالأرض ويزيل أي حجرة تدل على صاحب القبر.

وأضافت: أحضروا ثلاث نساء متهمات بالزنا، فألبسوهن عباءات سوداء، وحددوا مكاناً خاصاً للرجم، ثم ملؤوا أيدي القوم بالحجارة، واشتغل الضرب بحماس حتى الموت، ثم سلمت الجثث لأهلها!

وفي الرقة، رأيتُ على «اليوتيوب» حفلة جنون من ذلك النوع، حين استعطفت الفتاة أبوها بالغفران، فأبى واشترك مع القوم في ضرب ابنته بالحجارة حتى الموت.

أما المثلي المشتبه في أمره، فذكرت المتصلة من بغداد أن ثمة بناية خاصة اسمها أوزداراك في الطابوق (الموصل) خصصوها لرمي المشبوهين من ارتفاع شاهق. قالت: هي خمسة طوابق، حيث يلقى بالمتهم من سطحها الأعلى إلى الأرض. وهناك طبيب من مجرميهم يأتي فيفحص المشوه من الارتطام، ليفيد أن به بقية روح، فيأتي الداعشي المجرم فيجهز عليه بطلقة «رحمة» في الرأس!

قالت: هناك من تم اتهامه بالكفر، فأحضر للإعدام، وطلبوا منه ترديد الشهادة قبل الإعدام، فكررها وظل يصرخ بأنه مؤمن، لكنهم ما زالوا به حتى أطاحوا رأسه بضربة.

قالت: لقد كان فيهم جنسيات مختلفة من كل الأرض، يرطنون بعشرات اللغات، ويبدو عليهم أنهم مثقفون وليسوا غفلاً أميين، وأكدت أن من يقودهم هم بقايا مخابرات صدام حسين، فهم العقل المخطط البارد المدبر. أما الشباب المتحمسون والمغفلون، فمن بقاع الأرض الأخرى.

الكل مسلح، وبمن في ذلك فرقة الخنساء النسائية، لذلك لم يكون بمقدورنا الهرب. صهري عبد الوهاب أوقفوه في المسجد، وقالوا له إن سروالك طويل مخالف للسنة، ويجب أن يكون فوق الكعبين؟ ارتعب وتحجج لهم بنحافته، وبأن سرواله هوى للأسفل، ولو شد الحزام لارتفع إلى ما يطلبون. همهموا: ربما.. وأطلقوا سراحه، لكنهم التفتوا إلى لحيته: أيها الفاسق، إنها أقل من قبضة؟ حاول أن يحلف بكل مقدس أن لحيته هكذا لا تطول. فكر في طريقة يمطط بها لحيته ويقصر عقله، كما قصر ثوبه!

خسر الجيش العراقي الكثير وهو يتقدم بين الألغام والأنفاق، فالقوم حفروا الأرض، وعرفوا كيف يكمنون للوحدات العراقية، ويفجرون كل بيت هرب منه أهله بعد تلغيمه، واستخدام السكان دروعاً بشرية.

قالت: القسم الأيسر من نهر دجلة في الموصل تم تنظيفه من الدواعش، لكن أيمن النهر فيه نحو مليون إنسان، والدواعش مختبئون هناك بين السكان، فكيف سيخرجون؟

قلت لها: وماذا يفعل البغدادي؟ قالت: لقد هرب. ولو قضي عليهم في الموصل، فهناك خلايا نائمة لهم في أماكن كثيرة، ولسوف ينبت من رمادهم دواعش، طالما دبت الحياة في فتاوى القدماء وخرجوا من مقابر التاريخ.

هذه شهادة من عائلتي، وهي شهادة حية للتاريخ، مفادها أن تجربة «داعش» أظهرت سخف النموذج الذي يدعون إليه، وفشله في إنتاج مجتمع عادل، مما يقود للتبرؤ من هذا النموذج، وهو الأمر الذي جعل ترامب يعد بمحوه من وجه الأرض، ولو لم يمحه ترامب فسيمحوه التاريخ غير مأسوف عليه.