محمد قواص

داهم «الربيع العربي» المنظومة الدولية الغربية فراحت ترتجل التعامل مع ظاهرة مفاجئة اجتاحت منطقتنا. تبرّعت واشنطن كما العواصم الأوروبية الحليفة في إدارج الأمر داخل سياق تاريخي يتناسل من لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي. وخرجت التحليلات مبسّطة مسطّحة تصف الحدث بجانبه الرومانسي في ثنائية الصراع بين الخير والشر، وبالمناسبة بين الاستعباد والحرية، وبين الاستبداد والديموقراطية.

غير أن قيح هذا «الربيع» فاض ليكشف هزال الحدث في تسجيل تقدم حضاري داخل تاريخ الإنسانية، كما كشف خواء النظريات التي خرج بها المدافعون عن حقوق الإنسان في فهم حقيقة الورم وأسرار انفجاره داخل الميادين العربية. لكن الأدهى من ذلك، أن الاستخفاف الذي استخدم فيه العالم الغربي مقاييس حقوق الإنسان في تقييم حالات الحرية لدى بعض البلدان العربية، محض الأساليب التي تلامس التطرف مشروعية أممية، وفتح الأبواب مشرّعة أمام منطق ظهور الإرهاب وإدراك حيثياته، فيما بدت إثارة ملفات الدفاع عن حالات هامشية، ورفعها من على المنابر الدولية أمراً ينتمي إلى عدّة المناكفة بمعناها السياسوي بعيداً عن سمات الدفاع عن الحريات وعن كرامة الإنسان.

بدا للمواطن العربي بوضوح مزاجية الحملات التي تُشنّ بين الفينة والفينة ضد هذه الدولة دون تلك باسم الغيرة على حقوق الإنسان. وفيما لا يجد الفرد العربي، كما الجمعيات المحلية والإقليمية المرتبطة بجمعيات أمّ في أوروبا والولايات المتحدة، تفسيراً للصمت المواكب للانتهاكات «العادية» التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، وللشلل الذي يقابل به المجتمع الغربي تلك التي يمارسها نظام دمشق (بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية وفق تقارير الأمم المتحدة الرسمية)، تستمر العواصم الغربية في نبش ملفات تقارب حالات ملتبسة في هذه الدولة المستقرة أو تلك، على نحو لا يفهم منه إلا السعي لنفخ براكين «الربيع» باتجاه ساحات حافظت على استقرار نادر وسلم أهلي عجيب.

وإذا ما تمكنت الملكيات العربية من حماية منجزيْها الاجتماعي والسياسي وتجنيبهما الشرر الذي قذفت به أورام المنطقة المتفجرة، فإن العقل الغربي بقي عاجزاً عن فهم ديناميات هذه السكينة الداخلية، ولم يدرك سر الخلطة التاريخية الثقافية التي وفّرت لتلك الدول مناعة بنيوية ثابتة ودائمة. وفيما تطلق العواصم الغربية من خلال جمعيات حقوق الإنسان انتقاداتها الانتقائية وفق مسطرة أخلاقية مسطحة لا تبعد عن خبث مغرض، فإنه حري بالعالم أجمع أن يعيد التفكير في كيفية المحافظة على استقرار الدول والمجتمعات والتي بات انفجارها ينقل آفات الإرهاب والهجرة والاختلالات السوسيوسياسية إلى حضن العالم الغربي نفسه.

وقد يكون من الضرورة الشروع في إجراء محاسبة لـ «حقوق الإنسان» كعنوان من عناوين السياسة الخارجية للعالم الغربي من زاوية وقع سوء استخدامه على الواقع العربي برمته. وفيما تروج في الولايات المتحدة وفي دول الاتحاد الأوروبي تيارات وأحزاب وأفكار شعبوية لا تتنفس روح العصر وشرائعه وتنتمي إلى الحقبات التي مهدت لنشوب الحرب العالمية الثانية، فإنه حري إعادة كتابة شرعة حقوق الإنسان بسقوفها الإنسانوية التي تروم في نهاياتها تحقيق السعادة والرخاء والازدهار والحرية للفرد، وألا تكون سبيلاً بليداً لنشر الحرائق وهدم الصروح الحضارية من أجل تحقيق أهداف واهمة ما زالت المنطقة العربية برمتها تتحسس معالمها. 

وقد يكون مطلوباً من العرب أنفسهم، أنظمة سياسية وحكومات وأحزاباً وتيارات ومجتمعات مدنية، إعادة تعريف النموذج الذي يتوسلونه للارتقاء إلى مستويات متطورة داخل المنظومة الدولية الراهنة. والمطلوب خصوصاً أن يتخلّص العرب من الوصفات الجاهزة المستوردة التي لا يمكن إنزالها بصفتها مقدساً تجوز عبادته، خصوصاً وأن ما تمر به المنطقة العربية يكشف عن خواء نظري استراتيجي أحال الوجود العربي رهن ارتجال يومي يعمل بالمستطاع للقفز إلى أول شاطئ أمان. 

لا تروم هذه السطور الكفر بشرعة حقوق الإنسان، فذلك منجز يعبر عن أرقى ما يمكن للإنسانية أن تصل إليه في حكاية تطورها. 
لكن بات من الواجب عدم السماح بالعبث باستقرار مجتمعات ساكنة من خلال تفخيخها بملفات منتقدة لانتهاك هنا وتجاوز هناك ليس وفاء للإنسان وحقوقه بل خدمة، قد تكون مجانية، لتمرير صفقات يختلط فيها المالي بالسياسي، بما يحوّل تقارير تلك المنظمات الدولية المعنية تمريناً من تمارين الابتزاز السوقي اللئيم. وواضح أن الكيفية التي تعاملت بها عواصم القرار الدولية مع مسائل حقوق الإنسان في العالم العربي استندت الى مزاجية ملتصقة بأجندات سياسية واضحة. 

ولا يمكن هنا تبرئة منظمات حقوق الإنسان في العالم من تواطئها في الترويج لسياسات ظرفية ماكيافيلية من خلال الترويج لقيّم يفترض أنها إنسانية تعمل خارج سياق حسابات الأقوياء وأجندتهم.

وقد صدف أني زرت واشنطن عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة مستطلعاً مزاج أصحاب القرار في العاصمة الأميركية. وحين سألت أوساطاً نافذة داخل وزارة الخارجية الأميركية حول مآلات التبشير الذي ران العقلية الأميركية الحاكمة لنشر الديموقراطية في العالم العربي، أتى الجواب واضحاً: «لم نعد نتحدث عن الديموقراطية بل عن الاستقرار في هذه المنطقة». 

برمشة عين أوحى بها العبث المتفجر منذ «الربيع العربي» تُبدّلُ الولايات المتحدة أولوياتها. ولئن كان ذلك من شيم الدول ومصالحها العليا، فإنه من غير المسموح أن يتحوّل ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان سلاحاً كيفياً يصار إلى شهره أو تغيير أهدافه وتبديل إيقاعاته وفق مزاجية نخب حاكمة تتداول السلطة وفق مزاج الساعة ومهارات الحملات الانتخابية في هذه الدولة الكبرى أو تلك. 

وإذا كان المطلوب من عواصم القرار الكبرى أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية في العمل على إطفاء الحرائق في منطقتنا وفي المساعدة على رفد الجهود لوقف الصراع في سورية واليمن والعراق وليبيا، فإنه حري لنفس هذه الدول وقف العبث في استقرار بلدان ومجتمعات نجحت في تحصين أمنها واستقرارها وردت عن حاضرها الرياح السوداء لذلك «الربيع» الملتبس.