وليد محمود عبدالناصر

صاحبت انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية ضجة لم تنته أصداؤها بعد في شأن علاقة مقربين منه وبعض معاونيه ومستشاريه مع روسيا. 

ودفع ذلك إلى إبداء مخاوف من أن يحمل ذلك في طيّاته أخطار تسليم أميركي بمصالح روسيا ومطالبها، ومن ثم تراجع القوة العالمية لواشنطن لمصلحة منافستها اللدود، بل قفز البعض إلى استنتاج، قد يبدو خيالياً، مفاده توقع أن يلعب ترامب دوراً مشابهاً للدور الذي لعبه الزعيم السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف في تراجع ثم انهيار القوة السوفياتية بين عامي 1985 و1991. 

إلا أن التطورات على عدد من الجبهات أوضحت أنه حتى مع افتراض صحة ما قيل عن علاقة عدد من فريق ترامب مع روسيا، بل وحتى ما قيل عن دعم موسكو للرئيس الجديد بصور مختلفة، فإن الحالة الأميركية تبقى حالة دولة مؤسسات، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع النظام السياسي الأميركي والمنظومة القيمية التي تحكمه والسياسات التي تتبعها مؤسساته، فإن الثابت أن هذا النظام أثبت في معظم الفترات التاريخية أنه يملك القدرة على صياغة الحدود لدور كل مؤسسة، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة نفسها، في سياق مبدأ «توازن السلطات» مع استقلال كل منها ضمن إطار يحكمه الدستور. 

رأينا ذلك في رد الفعل السلبي للسلطة القضائية، ممثلة في المحكمة العليا، على أوامر تنفيذية صدرت عن ترامب بمنع أو تقييد الهجرة أو الدخول إلى الولايات المتحدة من دول بعينها. كذلك رأيناه لدى اضطرار الرئيس الجديد لسحب بعض مرشحيه لمناصب رفيعة في الإدارة، أو حتى صرف النظر عن التقدم بترشيحهم أصلاً، تحسباً لمواقف سلبية في الكونغرس على خلفية ما نشر عن علاقات وثيقة لهم مع روسيا أو لمواقف بدت متشددة عبروا عنها قبل مشاركتهم في حملة ترامب الانتخابية، وذلك على رغم أن الحزب الجمهوري، وهو حزب الرئيس، يملك الغالبية في مجلسي الكونغرس.

وكشفت التطورات المرتبطة بالموقف الأميركي من التصعيد الأخير في القضية السورية أن الاختلاف في المصالح، ومن ثم في الاستراتيجيات والسياسات، بين الولايات المتحدة وروسيا، هو أعمق من أن تتم تسويته في شكل سريع أو التغاضي عنه وتجاوزه على خلفية تغيير أشخاص القيادات على هذا الجانب أو ذاك. 

فالتنافس، أو بمعنى أدق الصراع بين الطرفين، ليس خلافاً بين أشخاص أو حالة مزاجية، بل هو على مناطق نفوذ وعلى موارد اقتصادية متنوعة وعلى إيجاد وحماية وتوسيع قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية وأمنية على تعدد أشكالها ووظائفها. وعندما تدخل الاعتبارات الجيواستراتيجية في المعادلة يبدأ النظر إلى الأدوار المتوقعة من الدول، سواء على صعيد الحلفاء أو من الخصوم والمنافسين، وهو أحد العوامل التي دفعت القيادة الأميركية الى شن غارات على مواقع عسكرية سورية في أعقاب اتهام الجيش السوري بالمسؤولية عن استخدام مواد سامة في هجوم على مناطق تسيطر عليها المعارضة السورية، ما أدى إلى وقوع ضحايا بين المدنيين السوريين، بمن في ذلك الأطفال. 

وكان من شأن هذا الإجراء الأميركي السريع، وكذلك التلويح بإجراءات عسكرية أخرى ورد الفعل الروسي على ذلك وتناقض مواقف واشنطن وموسكو في مجلس الأمن، إعادة اللحمة إلى تحالف كانت الشكوك بدأت تساور بعض أطرافه في مدى الالتزام الأميركي بهذا التحالف من جهة، وإعادة الثقة إلى حلفاء واشنطن بأنها لا تزال على عهدها بالانغماس في شؤون العالم، بما في ذلك البعيد من حدودها ونطاقها الإقليمي، طالما هناك مصالح أميركية عليا واعتبارات تتعلق بالأمن القومي الأميركي على المحك يتعين الدفاع عنها.

ولكن الملفات المطروحة اليوم على الساحة الدولية، وتلك التي تمس حاضر العلاقات الأميركية- الروسية وتؤثر في آفاقها المستقبلية، هي أشمل من القضية السورية وتحولاتها، وبعضها أكثر تعقيداً، وذلك من دون التقليل من الأهمية الجيواستراتيجية لتلك القضية في سياق هذه العلاقات أو حتى خارج إطارها وفي مجمل تفاعلات النظام الدولي، بل هي حتى أكبر من قضايا منطقة الشرق الأوسط، وذلك رغم أن تلك المنطقة تبدو اليوم وكأنها الأكثر اشتمالاً، ضمن مناطق العالم، على أكبر عدد من الصراعات والحروب المتأججة بفعل درجات تفاعل مرتفعة الحدة والكثافة وبما يشهد تعقيدات متصاعدة ومستمرة، سواء بالنسبة الى صراعات داخل حدود دول المنطقة أو بين دول في المنطقة أو بين دول المنطقة ودول كبرى خارج حدود الإقليم. 

فقد شهدت الأيام الماضية على سبيل المثال تصعيداً في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها، وفي مقدمها اليابان وكوريا الجنوبية من جهة، وبين كوريا الشمالية من جهة أخرى، وهو أمر يحمل في طيّاته نذراً قد تهدد استمرار الحياة البشرية بفعل الحديث عن القدرات العسكرية المتقدمة لبيونغيانغ، بما فيها قدراتها النووية، وفي ظل التهديدات المتبادلة والمتصاعدة بين واشنطن وبيونغيانغ، ومن غير الواضح حتى اللحظة مثلاً حقيقة الموقف الروسي إزاء هذه القضية، سواء في طورها الراهن أو في حالة دخول المزيد من التطورات عليها، وذلك في ضوء العلاقات القوية التي ربطت الاتحاد السوفياتي مع كوريا الشمالية في زمن الحرب الباردة، ونظراً الى ما يتردد عن علاقات وثيقة لا تزال تربط المؤسسات العسكرية والأمنية في البلدين.

ولكن هناك قضايا لا تختص بمنطقة أو دولة بعينها، وهناك خلافات متواصلة بين الولايات المتحدة وروسيا، تحتاج للتفاوض حولها بين الدولتين، سواء في سياق ثنائي أو متعدد الأطراف أو تحت مظلة الأمم المتحدة، مثل عدد من القضايا تكاد تكون مجمدة منذ سنوات، بل أحياناً منذ عقود، وتندرج تحت عنوان نزع السلاح، خصوصاً السلاح النووي، والصواريخ الطويلة المدى بما فيها الصواريخ الحاملة لرؤوس نووية، بالإضافة إلى أنظمة الدفاع الصاروخي وعسكرة الفضاء الخارجي وغير ذلك من مواضيع ملحة تمس مستقبل البشرية وليس الولايات المتحدة وروسيا فقط، ولكنهما الدولتان صاحبتا الكلمة الأهم بسبب قدراتهما العسكرية المتعاظمة في هذه المجالات. 

وهنا أيضاً تطرح تساؤلات في شأن مدى إمكانية تجسير الهوة بين مواقف الدولتين، خصوصاً أن تلك المواضيع فيها مكونات فنية مهمة لا تقل عن المكونات السياسية والجيواستراتيجية، وأنه حتى بافتراض حدوث انفراجة سياسية بينهما شبيهة نوعياً بحالة الانفراج التي حدثت بينهما عام 1972، فإن وجهة نظر الخبراء المعنيين لدى الجانبين بالجوانب العسكرية والأمنية من جهة وآراء الخبراء المعنيين بالجوانب الفنية من جهة أخرى، ستؤثر في ما سيتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق في شأنه كما حدث منذ أربعة عقود ونصف العقد تقريباً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

وهكذا نرى أن هناك حدوداً لأي تغيير ذي طبيعة جوهرية يطرأ على العلاقات الأميركية- الروسية. يصدُق هذا على مرحلة الحرب الباردة وعالم القطبين بالقدر الذي يصدُق على عالمنا اليوم، سواء سمّيناه عالم القطب الواحد أو عالماً في مرحلة تحول وانتقال، وإن تفاوتت الدرجة والحدة والمدى. وتأتي محدودية هذا التغيير وقيوده بحكم عوامل تاريخية وهيكلية وبنيوية، منها ما هو تراكمي ومنها ما تؤثر فيه اعتبارات ثقافية- حضارية، ومنها ما هو ناتج من اختلاف طبيعة النظم القائمة في كل من الدولتين وكذلك المنظومات القيمية التي تحكم وتسود المجتمعين، بالإضافة إلى المرجعيات الفكرية في الذاكرة الجمعية لكل من النخب والشعوب. 

يضاف إلى ذلك اختلاف، إن لم يكن تناقض المصالح المعنوية والمادية العليا على حد سواء المتفق عليها، مرة أخرى من جانب النخب أو الشعوب، وتعريف الأمن القومي لدى كل طرف والحد الأدنى الضروري من متطلباته، وكذلك غياب الثقة بين الطرفين على مدار قرن كامل تقريباً، ربما باستثناء الفترة الأولى من حكم الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن والمرتبطة في ذهن الشعب الروسي بتدهور حاد في قوة ومكانة بلدهم. 

ولا ننكر هنا دور الإنسان الفرد في صناعة التاريخ وتغيير مساره، ولكننا نقيمه في حدود ما يمكن أن يؤديه وفي ظل ما يحد من حركته من مؤسسات، تبرز بخاصة هنا، وبقوة، في الحالة الأميركية التي شهدت تغير القيادة، ولكن العوامل المشار إليها هي التي تؤثر في القيادة وليس من شأن الأخيرة، في المقابل، تحقيق درجة التأثير ذاتها على تلك العوامل.


* كاتب مصري