محمد السماك

أقلية فقط من يهود الولايات المتحدة صوّتت لمصلحة دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. والرئيس ترامب يعرف ذلك جيداً. والأرقام تؤكد أن أكثرية اليهود صوّتوا لمصلحة منافسته هيلاري كلينتون. وقد بلغت نسبة هؤلاء 71 في المئة.

وحتى في ولاية فلوريدا بالذات، معقل قوة ترامب، لم يصوّت لمصلحته من اليهود سوى 68 في المئة فقط.

وتبين دراسة إحصاء رسمية أن 72 في المئة من اليهود لا يؤيدون ترامب حتى الآن.

ولكن الموقف من ترامب «الرئيس» بدأ ينقلب رأساً على عقب، ويعود ذلك إلى أمرين أيضاً: الأمر الأول هو موقفه من المشروع النووي الإيراني وتوافقه مع إسرائيل على أن اتفاق إيران مع المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة قد يؤخر امتلاك إيران للسلاح النووي، ولكنه لا يحول دون ذلك.

أما الأمر الثاني، فهو موقفه من الصراع العربي- الإسرائيلي. فهو لا يؤمن بحلّ الدولتين (فلسطين وإسرائيل)، كما أنه لا يرى مانعاً من نقل مقرّ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وقد يعني هذا الموقف الذي امتنع عنه الرؤساء السابقون جميعاً الذين تداولوا على البيت الأبيض منذ عام 1967، إطلاق يد إسرائيل في مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وبناء المزيد من المستوطنات اليهودية عليها.

وبالفعل دعا وزير التربية الإسرائيلي نفتالي بانيت إلى ضم 60 في المئة من الضفة الغربية. ولكن ماذا عن الدولة الفلسطينية؟.

يجيب بانيت: «لقد أصبحت من الماضي»!

لم يعد سراً أن إسرائيل تخطط لإلغاء «الضفة الغربية» وتحويلها إلى «يهودا والسامرة»، أي إلى جزء من الأرض الموعودة! مقابل تحويل غزة إلى كيان فلسطيني يتوسع في صحراء سيناء على حساب مصر لاستيعاب المهجرين الفلسطينيين من الضفة المهوّدة.

وفي الواقع، فإن إسرائيل في ذكرى قيامها تستقوي بمتغيرات أساسية ثلاثة: يتمثل المتغير الأول في الموقف الأميركي. فترامب الذي يعرف جيداً مدى هيمنة اللوبي اليهودي الأميركي على الإعلام في بلاده -وفي مناطق عديدة أخرى من العالم- قد يحاول إعادة احتواء هذا اللوبي والتقرب منه ليساعده على تصحيح صورته في الداخل وفي العالم، مقابل تقديم خدمات استرضائية لإسرائيل.

ويتمثل المتغير الثاني في النجاح الذي حققته الحملات المتواصلة لربط الإسلام بالإرهاب، خاصة في الاتحاد الأوروبي. ويعكس ذلك صعود اليمين المتشدد المنفتح على إسرائيل باعتبارها والدول الغربية ضحية لهذا الإرهاب!

لقد أدى إطفاء وهج الدور المسيحي العربي في القضية الفلسطينية إلى تصوير هذه القضية، وكأنها أصبحت قضية إسلامية فقط. ومن خلال ربط الإسلام بالإرهاب تربط المقاومة الفلسطينية بالإرهاب أيضاً. وهكذا تصنف إسرائيل ذاتها إلى جانب ضحايا الإرهاب في أوروبا والولايات المتحدة..وبالتالي تضع ذاتها في معسكر واحد مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لمحاربة الإرهاب..الإسلامي..والفلسطيني جزء منه!

أما المتغير الثالث والأهم، فيتمثل في حالة العجز العربي، كما يتمثل أيضاً في غرق دول عربية عديدة في مستنقعات الدم الداخلي، حيث يتم استنزاف قواها وإمكاناتها بعيداً عن الجبهة مع إسرائيل (مثل العراق وسوريا وليبيا واليمن) وهو استنزاف يشمل الدول العربية الأخرى التي تنشغل في محاولات وأد الفتن الطائفية والمذهبية والعنصرية، وما يترافق معها من مشاريع تستهدف خلق كيانات سياسية تمزيقية تعيد رسم خريطة المنطقة من جديد.

وهذه العوامل الثلاثة تشجع إسرائيل على انتهاج سياسة أشد تطرفاً وأكثر استخفافاً بأي رد فعل عربي. وترى في تكامل هذه العوامل فرصة تاريخية لتحقيق المزيد من التوسع، وبالتالي لفرض الأمر الواقع على الأراضي المحتلة كافة، غير أن هناك عاملاً واحداً يمكن المراهنة عليه عربياً، وهو صعود حركة التطرف الديني في إسرائيل -«داعش» يهودية- وهي حركة تثير قلق ومعارضة القوى العلمانية واليهودية المعتدلة.

ولا يقتصر دور هذه الحركة المتشددة فقط على الاعتداء على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصة في القدس، ولكنه يشمل أيضاً اليهود الآخرين الذين يخشون من السيطرة الدينية على المجتمع وعلى القرار السياسي.

وقد تمكنت هذه الحركة من خلال تنظيماتها الحزبية المتمثلة في الكنيست (البرلمان) من أن تفرض آراءها ومواقفها المتطرفة على نتنياهو نفسه. وقد أصبح للحاخامات «الداعشيين» من النفوذ ما لم يكونوا يتمتعون به في أي وقت منذ قيام إسرائيل في عام 1948.

ويبدو أنه كلما تراجع الضغط الخارجي عربياً كان أو دولياً..أو كلما تراجع الخوف من الخارج..تتقدم الهجمة الأصولية اليهودية، وترتفع وتيرة الصراع الداخلي..

ويرتفع معه الخوف على الداخل من الداخل.