عبدالله الزازان

إن اتهام المملكة بالتفريط في حقوق الإنسان هو اتهام لا يستند على الحق والعدل ومقتضى المنطق السليم، وهذه الدعوى يقصد بها التبرير وليس الحقيقة، وتمرير المواقف السياسية المتحيزة ضد المملكة..

منذ سنوات بعيدة تبنت منظمة اليونسكو تعاليم قيمية كان التسامح أحدها - رغم أن التعاليم الأخلاقية لم تكن موضوع خطاب الغرب الجديد - وبالذات بعد اكتشاف العالم الجديد ودخول أعراق وأجناس وثقافات في الثقافة الغربية.

عند ذلك تنبه الضمير الغربي إلى بضعة أولئك الملايين التي زحفت إلى الأطلنطي منذ ثلاثة قرون حتى شعر بهم المجتمع العريض، وهنا بدأ السياسيون بإعادة النظر في قضايا العلاقات الإنسانية.

ولا بأس أن يستيقظ الضمير الإنساني لكسب نقطة لصالح حقوق الأقليات المضطهدة.

حيث يتفقون على حقوق أولئك المضطهدين في تصريحاتهم وأقوالهم، ولكنهم يختلفون في الطريق المثلى في رفع الظلم عن كاهلهم.

لن نعرض لهذه القضية من وجهة نظر سياسية بل سوف نتناولها في حدودها الأخلاقية.

في كندا مهاجرون، وفي كندا أقليات استوطنت منذ ثلاثة قرون، وهؤلاء تعرضوا لنظام القهر العنصري الاجتماعي، فكندا بحكم براغماتيتها العملية تعرف وقد قررت سلفًا أن هؤلاء الناس هنا لسبب واحد هو لأغراض التسخير الاقتصادي المتذرع بفكر الاستعلاء، فهي بحكم تزمتها العنصري لا تنتظر من هذه المخلوقات غير التسخير من أجل صنع كندا.

لا أظن واحدًا من السود أو أهل الجزر أو اللاتينيين أو الشرقيين أو الآسيويين الذين جيء بهم عبر الأطلنطي أو الهادي أو جاؤوا سعيًا وراء الفرص وصاروا كنديين على كره من كندا لا أظن واحدًا منهم يصدق ولو للحظة واحدة الشعارات التي ترفعها كندا حول حقوق الإنسان بل يرونها مجرد نكتة كبيرة.

واليوم كندا الدولة التي مدت ذراعيها لدولة إسرائيل العنصرية، وتقيم معها أوثق الروابط لأسباب لا تحتاج إلى إشارة وأبانت عن تناقضاتها.

فكندا - كما لا يحتاج إلى نقاش - ذات عاطفة قوية تجاه إسرائيل، وانحيازها واضح خصوصًا مواقفها المتحاملة على الفلسطينيين، وصارت تنظر إلى القضية الفلسطينية من زاوية حقوق الإنسان الإسرائيلي، وبمرور الزمن أصبحت ثوابت مسلماً بها تحكم الحوار حول علاقة كندا بالقضية الفلسطينية، وهذا يفضي بنا إلى فضح الأمانة الإنسانية التي لم تتحلَ بها كندا.

في كتابه الرائع «التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب» يقدم لنا الشيخ صالح الحصين رؤيته العالمية لمفهوم التناقض في الفكر الغربي بين الأخلاق والسياسة أو السياسة والمصالح لنلقي نظرة على أفكار هذا الكتاب - الذي له علاقة بموضوعنا هذا - قد يفتح لنا بابًا لفهم جديد، وبالذات بعد تشكل العالم الحديث على مبادئ الحداثة السياسية والتي تمخضت عن التحولات التي شهدتها أوروبا خلال القرون الأربعة الأخيرة، ونشأت السياسة عبر المصالح التي تحددها كل دولة وفق قوتها وقدراتها التسليحية والاقتصادية.

وبالرغم من استناد السياسيين الدائم على القيم الأخلاقية وإلى القانون الدولي في تبرير سلوكهم في العلاقات الدولية المعاصرة فإن الواقع كما هو معروف وكما تقرره كتب ومقررات العلاقات الدولية المعاصرة تقوم على المصلحة والقوة ولا تقوم على الأخلاق والقانون.

وإذ يبدو اليوم بدهيًا انفصال الأخلاق عن السياسة تبعًا لثبات الأولى وتغير الثانية فإن ما جعل الأمر كذلك ليس هو طبيعة الأشياء ولا نتيجة لتناقض أصلي بين الأخلاق والسياسة بقدر ما هو ترتيبات أصلتها النزعة المادية التي حكمت الغرب في كل علاقاتها.

ذلك أن البنية المادية التي تتحكم في رؤية السياسات والمصالح جعلت الغرب ينظر للسياسة بعيدًا عن الأخلاق، ما يعني ضمنًا أن هوية الصراع الذي تأسست عليه الحضارة المادية الغربية هي التي تتحكم في رؤية الدول.

وإذا كانت الثقافة الغربية تعبر عن نضج الإنسان وتطور فكره وتسليمه بالقيم الإنسانية إلا أن هذا لا ينفي عنه سيادة فكرة الصراع والأخلاق المكيافيلية والمعايير المزدوجة للقيم، فتسليم الغرب للقيم الإنسانية يقوم على منطق نفعي مادي، ذلك أن المادية هي البنية الناظمة لجوهر التفكير الأخلاقي في الغرب والمادية بطبيعتها تصبح عاجزة عن تقديم الإنسانية المجردة بلا مردود نفعي مقابل، وهذا بالضبط ما يحدث مع كندا.

ولذلك فإن اتهام المملكة بالتفريط في حقوق الإنسان هو اتهام لا يستند على الحق والعدل ومقتضى المنطق السليم، وأن هذه الدعوى يقصد بها التبرير وليس الحقيقة، وتمرير المواقف السياسية المتحيزة ضد المملكة.

فسياسة المملكة الخارجية تقوم على أساس احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الخاصة، وفي الوقت نفسه عدم السماح لأي دولة أو جهة خارجية أن تتدخل في الشؤون الخاصة للمملكة.

ويعرف العالم اليوم كله وحتى الإعلام الكندي يدرك أن المملكة في جميع خطواتها تنطلق من معرفتها بما تريد هي لا من إدراكها لما يريد الآخرون.

فليس الأمر الوارد أن تبلور المملكة مواقفها كنتيجة لرؤية الدول، ولكن الأمر الوارد أن المملكة دولة ذات سيادة ورؤية واضحة.

فالمملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز وإلى اليوم تتخذ الموضوعية ومواجهة الحقائق سبيلًا للتعامل الدولي مع كل القوى الإقليمية والعالمية من منطلق معرفتها بحجمها الدولي، ورغبتها في أن تكون قوة فاعلة في المسرح العالمي كما ينبغي أن تكون.

فالتوازن الدقيق الذي أقرته سياسة الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - هو أن تحرص المملكة على رعاية مصالحها الوطنية ومكانتها القيادية في العالمين العربي والإسلامي، ودورها الإقليمي والعالمي، والتوازن في المصالح الدولية، كان هذا التوازن سمة لسياسة المملكة تجاه العالم، والسمة الأخرى الندية والتكافؤ في تعاملها مع الدول.