&وحيد عبدالمجيد&

لا يعرف لاعب كرة القدم الألماني ذو الأصل التركي مسعود أوزيل كم أساء إلى ملايين المهاجرين في أوروبا، سواء من حصلوا على جنسيات بعض دولها مثله، أو من يقيمون في هذه الدول، وإلى أي مدى أجرم في حق من يبحثون عن ملجأ في إحداها هرباً من القتل أو القمع أو البؤس في بلدانهم.


لا يدرك أوزيل كم أضعف موقف الأوروبيين الذين يدافعون عن حقوق المهاجرين، سواء من صاروا مواطنين من دون أن يعرف بعضهم مثله واجبات المواطنة، أو من يتطلعون لأن يحملوا جوازات سفر دول أوروبية يُقيمون فيها، أو من يحلمون بمكان لهم على أرض أي منها.

ليست أزمة «عابرة» تلك التي صنعها أوزيل، منذ أن ظهر في صورة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أول حزيران (يونيو) الماضي خلال حملة الانتخابات التركية، ثم صب زيتاً على نارها عندما أعلن في آخر تموز (يوليو) الماضي اعتزاله اللعب دولياً (أي اللعب مع المنتخب الألماني) في بيان نضح بعجرفة واحتقار تجاه من انتقدوا تورطه في دعاية انتخابية، ومخالفته قواعد اللعبة التي تمنعه من اتخاذ مواقف سياسية فجة على هذا النحو سواء في البلد الذي يلعب باسمه، أو في البلد الذي هاجر منه.

إنه دليل جديد على خطأ من يفتحون أبواب أوروبا أمام مهاجرين لا يمكن أن يندمجوا في مجتمعاتها. هذا ما يقوله قوميون متطرفون وشعبويون أعطاهم أوزيل فرصة ذهبية لدعم موقفهم الذي ينطوي على شكل من أشكال العنصرية تجاه الآخر المختلف.

ارتكب خطأً فادحاً. وبدل أن يعتذر عنه، قرر أن «يعاقب» البلد الذي احتضنه وأتاح له فرصةً لتحقيق نفسه. ولم يملك شجاعة الاعتذار، بخلاف زميله أيالكاي غيوندوجان، الذي ظهر معه في الصـــورة مع أردوغان. كان اعتذاره كفيلاً بإنهاء أزمة تُلحق الضرر بملايين المهاجرين، وتفويت الفرصة على المتـــطرفين الذين مكنَّهم من شن إحدى أعنف حملاتهم ضد الهجرة. غير أنه سار على درب الرئيــس الذي ظهر في الصورة معه، واتهم كل من انتقدوه عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأنهم عنصريون، على رغم أن الكثير منهم أخذوا عليه مخالفة قواعد اللعبة، والمشاركة في دعاية انتخابية، ولم يطعنوا في حقه في المحافظة على ثقافته الأصلية لكي يصح اتهامهم بالعنصرية.

أظهر غضباً لا يليق بمخطىء حتى النخاع، وزعم في بيان أصدره أنه ضحية العنصرية. غير أنه حين نقارن ســـلوكه هذا بمواقف كثير من الألمان، وفي مقدمهم رئيســـة الحكومة إنغيلا ميركل، يصعب تجنب التساؤل عما إذا كان موقفه ينطوي على نوع من العنصرية المضادة. أعلنت المتحدثة باسم الحكومة الألمانية، على سبيل المثال، أن ميركل تُقدّر أوزيل، وتدعو إلى احترام قراره عدم اللعب للمنتخب الألماني، وتؤكد أن الرياضة تُسهم في اندماج المنحدرين من أصول مختلفة. كما شكره نائب رئيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني ضمن رسالته إلى «كل المواطنين والمواطنات من أصول غير الألمانية. نحن ننتمي إلى بعضنا بعضاً، ولا بد أن نبقى كذلك».

ليس كل الأوروبيين، إذاً، عنصريين. هذا ما ثبت في الواقع، ولا يحتاج إثباتاً. وليس كل من يدعون أنهم ضحايا العنصرية صادقين في ادعاءاتهم، فضلاً عن أن بعضهم متورطون في مواقف أو ممارسات تعبر عما يمكن أن تعده عنصرية مضادة.

في سلوك أوزيل نوع من هذه العنصرية المضادة كشف فوز المنتخب الفرنسي باللقب في مونديال روسيا بُعداً آخر من أبعادها. ينطوي ادعاء أن أفريقيا هي التي انتصرت على نمط تفكير عنصري لا يرى أصحابه البشر إلا وفق أصولهم وألوان بشرتهم.

14 من بين 23 لاعباً في قائمة المنتخب الفرنسي في هذا المونديال، ينحدرون من أصول أفريقية. أسهم بعضهم في فوزه باللقب، وكانوا ضمن تشكيله الأساسي في معظم المباريات، مثل صامويل أومتيتي، وكيليان إمبابي، ونغولوكانتي، وبول بوغبا، وهم من أصول كاميرونية ومالية وغينية وكونغولية.

بدا الحديث عن أن أفريقيا هي التي انتصرت في بدايته نوعاً من التعبير عن الفخر. ولكن ما أن فاز المنتخب الفرنسي باللقب، وسجل بوغبا وإمبابي اثنين من أهدافه الأربعة في المباراة النهائية ضد منتخب كرواتيا، حتى اكتسى الحديث عن انتصار أفريقيا بنوع من التباهي، وشيء من التعالي، وربما أيضاً بحال إحباط سببها خروج المنتخبات الأفريقية الخمسة (مصر وتونس والمغرب ونيجيريا والسنغال) من دور المجموعات، وعدم وصول أي منها إلى دور ثُمن النهائي.

باح أفارقة، في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي في بلدان عدة، بما يدل تحليل مضمونه على عنصرية مضادة كانت مكبوتة، على نحو يناقض سلوك مناضلين أفارقة عظام ضد العنصرية مثل نيلسون مانديلا الذي أجهد نفسه لإقناع السود في جنوب أفريقيا بأن النضال ضد نظام «الأبارتايد» لا يعني كراهية البيض.

وهذا موقف مستقيم في مواجهة العنصرية يقدم نموذجاً أخلاقياً يمنح رافضيها قوة معنوية ينال منها أي قدر من العنصرية المضادة، ويعبر عن ثقة في النفس، ولا تشوبه ادعاءات تثير الشفقة من نوع أن أفريقيا انتصرت في مونديال لمجرد أن معظم لاعبي المنتخب الفائز تعود أصولهم إليها، علماً أن وجود لاعبين من أصل أفريقي في المنتخب الفرنسي يعود إلى عام 1938 (رادول ديانتي ذو الأصل السنغالي، الذي أصبح بعد ذلك عضواً في البرلمان الفرنسي، ثم صار أول مدرب لمنتخب السنغال بعد الاستقلال).

وليت من يدعون أن أفريقيا هي التي فازت في المونديال يسألون أنفسهم: هل كان لأي من لاعبي المنتخب الفرنسي ذوي الأصل الأفريقي أن ينجح، ويغدو نجماً، لو أنه بقى في بلده الأصلي، أو عاد إليه بعد أن شب عن الطوق في فرنسا، التي وجد فيها البيئة المناسبة لإظهار مواهبه، وتحقيق النجاح؟

هناك على سبيل المثال شقيقا بول بوغبا اللذان يلعبان في غينيا. وفي الكونغو الديموقراطية أيضاً يلعب شقيق ستيف مانداندا حارس المرمى البديل للمنتخب الفرنسي. فماذا حقق هؤلاء الثلاثة، وهل يعود تفوق بوغبا ومانداندا عليهم إلى فروق فردية فقط، أم إلى اختلاف الظروف والمنظومة؟.

سؤال يتعين على القائلين بفوز أفريقيا في مونديال 2018، وكذلك على أوزيل ومن جعلوه بطلاً، أن يفكروا فيه جيداً.
&