& محمد عبدالمحسن المقاطع

&

نحتاج إلى جرأة ومصارحة غير مسبوقتين في تناول حالة الانحدار التي بلغتها الدولة والمجتمع معاً في الكويت.. نحتاج إلى مكاشفة.. نحتاج إلى طرح يخرجنا من حالة المجاملة ومن حالة التغافل ومن حالة الاستغفال ومن حالة الخوف أو التردد.

علينا أن نعترف، بل وأن ندرك أن أهم كيانين لأي «أمة» أو لأي «شعب» قد تم تقويضهما بالنسبة الينا في الكويت، ألا وهما «الدولة» و«المجتمع».

فالدولة، والتي تتمثل في الكيان المنظم الذي نقلنا من المشيخة العشائرية إلى البنيان المؤسسي الموحد والمسمى «الدولة» والمعتمد على مرجعيات جوهرية لا وجود للدولة من دونها، وهي الدستور والقوانين والنظم والسلطات والمؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، قد تم تفكيكها وتقويضها.

أما المجتمع بمفهومه الكيان الجمعي للشعب بمقوماته التكوينية للكيان الاجتماعي بكل مكوناته بما نطلق عليه مصطلح «الشعب»، أي باعتباره وبمكوناته الاجتماعية والثقافية والقيمية والأسرية وروابطه الإنسانية والعائلية، فإنه أيضاً قد لحقه هو الآخر حالة التقويض.

وسأعرض هنا بعض مظاهر التآكل والاضمحلال ومحاولات الهدم التي لحقت بكل من «الدولة» و«المجتمع»، حتى نتبين عمق أزمتنا وحدية الانحدار الذي صرنا إليه بكل أسى وألم وحزن.

فعلى مستوى الدولة، والتي بدأت تتشكل بنمطها العصري والحديث منذ الثلاثينات، ونضجت في الخمسينات، واستوت على عودها مع بداية الستينات، فقد بدأنا ردة جامحة لنقضها وانتقاص ركائزها منذ أواخر السبعينات، وكانت البداية بإفراغ الدستور من مضامينه، ثم توالت عملية العبث بالنظم والقوانين شيئاً فشيئاً (قانون الانتخاب، قانون المطبوعات، قانون التجمعات، قانون الجنسية، قانون الشركات، وغيرها)، ثم بعد مرحلة التحرير بدأت عملية هدم مؤسسية الدولة، فكانت البداية بمجلس الأمة الذي تم تحويله في الغالب إلى مجلس أعيان ومراسلين لقضاء حوائج الناس.. ثم تم إضعاف مؤسسة مجلس الوزراء الذي صارت مكوناته غالباً من الموظفين الذين ينتظرون التوجيهات ولا يتخذون القرارات، وصار معظمُ أعضائه وزراء متنافسين متصارعين؛ كلٌّ يسير منفرداً بقراراته، فأجهض الدور المحوري لمجلس الوزراء المقرر بالمادة ١٢٣ من الدستور، فلم يعد مهيمناً ولا راسماً للسياسات ولا قادراً على إدارة شؤون الدولة.. وتعاقبت بعد ذلك متواليات تفكيك مؤسسات الدولة وإضعافها، فشلت قدرة ديوان المحاسبة وجُرّد ديوان الخدمة من سلطاته، وأُضعف دور البنك المركزي، وقُيّدت الفتوى والتشريع، وهو وضع معظم المؤسسات الأخرى، وحتى المؤسسات الجديدة، مثل هيئة أسواق المال ومكافحة الفساد، قد ولدت مشوهة وعاجزة، وقد تم في معية ذلك تقويض وشل معظم مؤسسات المجتمع المدني، سواء بالعبث بنظمها الانتخابية أو تقييد حرياتها أو بتأجيج الصراع الخاوي على عضوياتها أو بإفسادها بإخضاعها لتحكم المال السياسي، ففقدت كينونتها، وهكذا تم تقويض الدولة بردة مخيفة بدلاً من الدولة العصرية المؤسسية، وتزامن مع ذلك هدم المواطنة وقيمها والتي هي قوام الدولة ومؤسسيتها.

وأما على مستوى المجتمع، فقد نالته العصبيات التي تراخت أمامها الحكومة، فطفت على السطح استقطابات فئوية وقبلية وطائفية أدت إلى شرذمة المجتمع وإضعاف نسيجه الاجتماعي، وساعد على ذلك نظام انتخابي يذكي العصبيات ويحشد الأقليات للتمحور الفئوي، وهو الوضع الذي تلاشى معه الخطاب الوطني العام وحل مكانه الخطاب الفئوي، وتراجعت منظومة القيم الاجتماعية من التواصل والاحترام المتبادل ليسود مكانها الصراع الخاوي والتعريض بالناس والتسفيه للرأي الآخر، في ظل إغراء المال السياسي الفاسد فتشكلت ولاءات تبعاً للمتنفذين وأصحاب العطايا، سواء بالسلطة أو خارجها، وغابت قيم المواطنة الصالحة، وتراجع الدور الإيجابي للأسرة وللمؤسسات التعليمية في تعزيز العمق الثقافي للتكوين الاجتماعي للمجتمع، وصارت لدى شريحة من قطاع المجتمع ظواهر اجتماعية دخيلة لم يعرفها المجتمع الكويتي من ذي قبل، وهو ما ينذر بتوجه غير حميد لمجتمع يغذى العصبيات، ويعلي شأن الاستقطاب الفئوي الذي لا يبني مجتمعاً ولا يورث شعباً متماسكاً، بل يزيد من نمط الطرح الإقصائي وتمزيق المجتمع، وربما يشيع الكراهية، لا قدر الله تعالى في المجتمع. وصارت الوجاهة الاجتماعية والحصول على مناصب بالمجتمع همّاً رئيساً يشغل الناس، فاختزل التعليم بالشهادة، فصار لدينا حملة شهادات بلا علم ولا مؤهلات، وهذا يجعل البناء الاجتماعي هشّاً، فمتى كانت المظاهر والشكليات هي غاية الناس، يفقد المجتمع جديته وتطفو على سطحه مظاهر التفكك لضياع قيم الاحترام والتقدير، ومن غيرهما تصبح ارتباطات الناس طارئة وفِي مهب الريح، فيتآكل المجتمع ويضمحل من الداخل، فتضعف وحدته ويوهن تماسكه. فهل يجوز السكوت والصمت أمام كل ذلك؟!

&