&& محمد أبوالفضل

&الأزمة الاقتصادية التى تمر بها تركيا لها أسباب موضوعية ناجمة عن جملة من السياسات الخاطئة ارتكبتها الحكومة، وأدت إلى نتائج سلبية أثرت على مكانة الليرة. وهى سابقة على العقوبات الأمريكية الأخيرة حيال أنقرة، بمعنى أن الحديث عن مؤامرة تستهدف الدولة التركية من قبيل ابعاد المسئولية عن التوجهات التى يتبناها الرئيس رجب طيب أردوغان. الأكثر فداحة أن الأزمة وجدت من يقفزون عليها ويضعون لها مساحيق إسلامية للحفاظ على تعاطف قطاع واسع من مؤيدى أردوغان فى الداخل والخارج، الذى اعتبر الأزمة هجوما على اقتصاد تركيا لا يختلف عن الهجوم على العلم أو الأذان، كما وصفتها قيادات إخوانية بأنها انهيار للدين الإسلامي، وتراجع الليرة سوف يتسبب فى اغتصاب نساء المسلمين.

الحاصل أن الأسلمة جاءت من دوائر مختلفة ولم تأت من فراغ، لكنها حملت بين جنباتها أهدافا عدة. فأردوغان قصد من الربط بينها والأذان مثلا كعلامة إسلامية، استنهاض همم من مازالوا يدورون فى فلكه، وحثهم على عدم التخلى عنه، والإيحاء بأن تصوراته السياسية ذات الصبغة الإسلامية قادت إلى الأزمة، كنوع من الضغط عليه لتغيير توجهاته «المستقلة»، فى محاولة لنفى التهمة عن ممارساته التى كانت سببا أساسيا فيها.

يبدو دخول الإخوان على الخط منطقيا فى ظل المِحنة التى تعيشها الجماعة فى دول كثيرة، ولا يتبقى أمامها سوى تركيا التى أصبحت الحصن الأخير للتيار الإسلامي، بعدما انفضت عنه غالبية الدول التى كانت تدعمه، أو على الأقل لم تعد تفاخر علنا بتأييده، وحدوث مكروه اقتصادى فى تركيا قد تليه نتائج سياسية قاتمة، تجبر أردوغان على إدخال تعديلات على حساباته فى بعض القضايا، بينها تحالفه الوثيق مع الإخوان، الأمر الذى جعل الجماعة تعتقد أن المبالغة فى موالاته بالطريقة التقليدية التى تجيدها من قبيل النصرة.

لم تتعلم الجماعة من تجاربها السابقة، وتصمم على تكرار خطابها المزيف الذى لا تجيد غيره فى الحشد، ولم تتقن التفرقة بين الدروشة السياسية والأسباب المنطقية للأزمة الاقتصادية، واعتبرت كلا منهما سواء، لأنها تعلم عمق تأثير المداخل العاطفية مقارنة بالعلمية. لذلك عزفت على الوتر الأول وتجاهلت الثاني، وحضت المسلمين على تفضيل الليرة التركية على غيرها من العملات الأجنبية، ولم تعبأ بحجم الخسائر التى يمكن أن يؤدى إليها هذا التصرف لمن يستجيبون للنداء، فالمهم تظهر فى الصورة، وتقحم نفسها فى مشهد ترى أن وجودها ولو على هامشه يوفر لها مزايا سياسية. الخطاب الزائف تعدى الحديث البسيط عن مساهمات الأفراد المنتمين للجماعة إلى دول ومؤسسات. فحجم الأموال الليبية القابعة فى تركيا يصل إلى 30 مليار دولار، تصاعدت حدة المطالبات بتحويلها إلى الليرة، لأن جزءا كبيرا منها تملكه الدولة الليبية وخرج إلى تركيا خلال السنوات الماضية عن طريق عناصر إسلامية تمسك بتلابيب المصرف المركزى الليبي، وتتحكم فى جزء كبير من حركة الأموال إلى تركيا.

إضفاء الصبغة الإسلامية جاء فى وقت تعانى فيه جماعة الإخوان ومن يدورون فى فلكها من مشكلات كثيرة، فوجدوا فيها ملاذا للالتفاف حول مظلومية جديدة، ترمى لتوفير مبررات لمؤازرة أردوغان، وتهدد من يستهدفونه فى الولايات المتحدة أو غيرها، وأنهم من الممكن أن يتعرضوا لوسائل ضغط مالية من خلال عملية تحويل أموال سريعة إلى تركيا، وربما تحريض عناصر لاستنفار هممها وارتكاب جرائم عنف جديدة، على ضوء تعميم خطاب المؤامرة الغربية التى تريد الانتقام من النموذج التركي، الذى تحول إلى قبلة لكثير من الإسلاميين.

التجاهل المتعمد من هؤلاء لمناقشة أسباب الأزمة الحقيقية، يهدف إلى استمرار الهالة التى جعلت تركيا مثالا اقتصاديا عملاقا، وإبعاد أى شبهة داخلية، يمكن أن تفرغه من مضامينه السياسية التى قام عليها، واستندت بالأساس إلى روشتة غربية- رأسمالية وليست إسلامية، بغية عدم التشكيك فى جميع الطروحات التى تم تصديرها باعتبار أن أنقرة تحولت إلى عنصر جذب جراء توجهاتها الإصلاحية التى تنطلق من دوافع إسلامية. التغطية على الجوهر الفعلى للأزمة لن يستمر طويلا، سواء واصلت الولايات المتحدة سياساتها العقابية أو استجابت أنقرة لمطالب واشنطن وهدأت العواصف المتبادلة، ففى الحالتين هناك أزمة اقتصادية محتدمة فى تركيا، بحاجة إلى علاج هيكلى وليس مسكنات خطابية، فلا أحد ينكر قوة الاقتصاد التركى التى نهضت على أسباب علمية وليست دينية، لكن استكمال المسيرة الناجحة لن ينصلح بدغدغة مشاعر الناس والترويج لمزاعم كالتى تسوقها عناصر الإخوان، بل بخطط إصلاح تعترف بالواقع والعوامل التى أدت للأزمة. الواضح أن التوجهات العدائية التى تضمرها تركيا لبعض الدول قد تتراجع، لأن أردوغان يخشى من تراكم الأزمات حوله، فى وقت أصبح الداخل أشد احتقانا، عقب تبنى مجموعة كبيرة من الإجراءات العقابية، أخذت أشكالا إقصائية متعددة، فى الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والتعليم، وباتت دول كثيرة فى المحيطين الإقليمى والدولي، غاضبة من أنقرة، ما يتطلب الانحاء للرياح الاقتصادية قبل أن تصطحب معها روافد أمنية وسياسية. ما لم يعد أردوغان النظر فى ممارساته ويتخلى عن عجرفته الاقتصادية، سيجد نفسه أمام صورة سوريالية، تضطره لمزيد من الارتباك، لأن فرص مساعدته من قوى دولية محدودة، وهؤلاء لن يتحملوا نتائج الدفاع عنه أو مساندته، إذا قرر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب المضى فى مخططه العقابى الذى يمكن أن يضاعف من عمق الأزمة التركية.

محاولة الأسلمة جاءت فى البداية لامتصاص الأزمة وتأكيد التضامن مع أردوغان، مثل الدعم الذى أظهره أمير قطر تميم بن حمد، عندما وعد بضخ 15 مليار دولار دعما للاقتصاد التركى خلال زيارته أنقرة أخيرا، بينما عملية تحويل هذه الأموال من البنوك الأوروبية قد يستغرق وقتا ربما تتحول فيه الأزمة لوباء يصعب علاجه. الواقع أن الأزمة يمكن أن تصبح مقدمة لقيام أردوغان باستدارة قوية لإعادة النظر فى بعض السياسات، من بينها فقدان رهانه على تيار الإسلام السياسي، والتفرغ لسد الثغرات التى يعانيها الاقتصاد قبل أن تجرفه رياح الأزمات المتراكمة. أما إذا جرى التصميم على عدم الاعتراف بالأبعاد الحقيقية للأزمة وعدم إصلاح زوايا الاعوجاج سوف تواجه أنقرة مصيرا غامضا.