هل تستطيع ألمانيا الصمود في وجه مدّ الهجرة؟

يبدو السؤال غير ذي بال إذا أخذنا في الاعتبار أننا نتحدث عن أكبر دولة من حيث عدد السكان في الاتحاد الأوروبي بأكثر من 82 مليون نسمة، وبرابع أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي يقارب 4 تريليونات دولار ودخل فردي يقارب 50 ألف دولار سنوياً.

غير أن السؤال يبدو ملحاً وخطيراً إذا نظرنا إلى انعكاس مسألة الهجرة على السياسة الداخلية في ألمانيا، وتحديداً على نمو الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تضع رفض الهجرة في رأس سلم أولوياتها وتزرع في صفوف المجتمع كرهاً للأجانب يؤدي حتماً إلى اضطرابات مقلقة.

وليس ما حصل أخيراً في شوارع مدينة كيمنتس في "قلب" ألمانيا سوى دليل على أن المشكلة حادة إلى درجة أنها تشمل كل البلاد وتطال ليس الانقسام السياسي بين حكم ومعارضة فحسب، بل مكوّنات الائتلاف الحاكم نفسه.

وتعكس حال البلبلة ما يشعر به الألمان حيال تدفق المهاجرين الذي سمحت به المستشارة أنجيلا ميركل عامي 2015 و2016، حين وفد إلى ألمانيا نحو مليون لاجئ كثر منهم سوريون. وعندما يُقتل ألماني في الخامسة والثلاثين في كيمنتس طعنا في جريمة يُتهم فيها عراقيان وسوري، سرعان ما تتأجج المشاعر، وتستغل ذلك قوى سياسية تغذي الفكرة القائلة إن الأجنبي هو وراء كل المشكلات، من اضطراب حبل الأمن، إلى تفاقم البطالة، إلى الإخلال بتقاليد المجتمع وأعرافه... إنه "رهاب الأجانب" أو الخوف من الغرباء بامتياز.

وتنبئ التطورات الأخيرة بأن الحكومات الألمانية المتعاقبة، خصوصاً منذ توحيد الشطرين الشرقي والغربي عام 1990، لم تفلح في القضاء على ظاهرة اليمين المتطرّف.

والغريب أن الألمان يجب أن يكونوا راضين عن أداء ميركل وحكوماتها، فالاقتصاد جيد، والدين العام في طريقه إلى النزول عن عتبة الـ 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي كما تنص عليه معاهدة ماستريخت. ومع ذلك ثمة شعور عام بالتململ، بل القلق، وكذلك الغضب على ميركل وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي تبدّى في انتخابات سبتمبر (أيلول) 2017 حين منيت المستشارة بنكسة كادت تخرجها من الحكم، فيما نال حزب "البديل من أجل ألمانيا" 92 مقعداً في البرلمان من أصل 598، وتحوّل من حزب هامشي متطرّف إلى قوة سياسية رئيسية في المعارضة، خصوصاً بعد تحالف المستشارة مع خصمها الحزب الاشتراكي الديمقراطي.

ولئن كانت ألمانيا تبقى بلاداً آمنة إلى حد كبير، شهدت كلها عام 2017 نحو 730 جريمة قتل مما يعادل عددها في مدينة أميركية واحدة هي شيكاغو، فإن ما يعلق في أذهان الناس يتخطى الوقائع والأرقام. فألمانيا كلها اهتزّت في يونيو (حزيران) الماضي حين اغتُصبت فتاة في الرابعة عشرة وقُتلت، واتُّهم بالجريمة طالب لجوء عراقي.

وتفيد أرقام رسمية بأن 15 في المائة من جرائم القتل عام 2017 اتُّهم فيها لاجئون، مع أن هؤلاء لا يشكلون سوى 2 في المائة من سكان ألمانيا.

وغنيٌّ عن القول ان اليمين المتطرف يبني شعبيته المتنامية على وقائع من هذا النوع، سواء حزب "البديل من أجل ألمانيا" أو حركة "بيغيدا" العنصرية، أو "الحزب الوطني الديمقراطي في ألمانيا"، أو "حركة مواطني الرايخ" التي تضم مجموعات عدة ترفض الدولة الألمانية بوضعها الحالي وتدعو للعودة إلى الرايخ بحدود ما قبل الحرب العالمية الثانية...


ألمانيا إلى أين؟

تبدو أنجيلا ميركل التي تعاملت مع قضايا صعبة كثيرة، ليس أقلها انهيار الاقتصاد اليوناني وإقدامها على جعل ألمانيا الرافعة الأولى لإنقاذه، مربكة حيال مسألة الهجرة وانعكاساتها. فجلّ ما فعلته إبان أحداث كيمنتس الأخيرة، مثلاً، كان التمسك بسياسة التآخي والتسامح، واتهام "البديل من أجل ألمانيا" بإذكاء التوتر. حتى أن حليفها وزير الداخلية هورست زيهوفر، زعيم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي في بافاريا، ابتعد عن موقفها، وحاول بعد صمت طال أياماً تبرير ما حصل من تظاهرات صاخبة وأحيانا عنيفة في كيمنتس قائلاً إنه يتفهم مخاوف المتظاهرين.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأوساط السياسية الألمانية قلقة من تمدد اليمين المتطرّف خارج مناطق وجوده التقليدية، وهي ألمانيا الشرقية السابقة حيث لم ينجح الحكم الشيوعي في إزالة المشاعر النازية على مدى نصف قرن. وسبب ذلك قلق الألمان عموماً من مسألة الهجرة.

وهنا فشلت ميركل في إزاحة الأنظار عن الهجرة وتحويل النقاش إلى ظاهرة اليمين المتطرف، لأن الأخير يغرف من معين الهجرة وتداعياتها، ويُحسن تضخيم الأمور واستثمار لعبة التخويف.

لكل الكلام السابق خلاصتان:

الأولى أن اليمين المتطرف يمضي أبعد في اتجاه ترسيخ وجوده كجزء لا يتجزأ من المشهد السياسي الألماني. وهذا سيستتبع تطرفا مقابلا فيما الضامن لاستقرار ألمانيا هو التمسك بالوسطية، لأن تطرّفين لا يصنعان إلا اضطراباً.

الخلاصة الثانية ترتبط بالأولى، فألمانيا مستقرة هي الدعامة الأولى لاستقرار أوروبا. وإذا كانت ألمانيا تعاني من مسألة الهجرة، فما بالنا بدول أوروبية أخرى اقل قوة واقتداراً. والواضح أن أوروبا لا يمكنها أن تعتمد على فرنسا وحدها، بمعنى أن الثنائية الألمانية – الفرنسية أساسٌ لاستقرار أوروبا، فإذا اهتزّت ألمانيا تهتز أوروبا، وإذا اهتزّت "القارة العجوز" اهتزّ العالم... ولا شك في أن حربين عالميتين دليل دامغ على ذلك.