& سمير عطا الله

&

عندما غاب الروائي حنا مينه في أغسطس (آب)، كانت هذه الزاوية في مسلسل تفترض المهنة ألا يُقطع. وقد كتب في رثائه كثيرون. وسمَّته مثقفتنا العزيزة سوسن الأبطح «همنغواي العرب». وقارن البعض بينه وبين محمد شكري في فظاظة الفقر وصدق النص. وأعاد كثيرون الشبه بين حنا مينه وروائي الفقر الروسي ماكسيم غوركي.


وقد كان فيه شيء من هؤلاء جميعاً، لأن حياة مينه نفسها ظلت الرواية الأكبر، فأصبح مثل بدر شاكر السياب، لا يمكن أن تقرأ له كلمة من دون أن تتراءى لك صورته. غير أن مينه لم ينتصر على عذابه بالاستسلام للوجودية مثل شكري، ولم يرَ في فقره سبباً للتمرد، بل دعوة إلى الكفاح والعمل والكدّ، غالباً في أعمال شقيّة وقاسية. وعندما أعطته الشهرة الأدبية نوعاً من الميزة على رفاق الأمس، لم يتركهم، أو يخرج من صفوفهم.
من بين جميع المقارنات، كان يحلو لي أن أقارنه بالبولندي جوزف كونراد. مثله عاش زمناً في البحر، وعايش ظلامه وأهل المرافئ وأسراب الطيور التائهة. ومثله له عالمان، المياه واليابسة. لكن فيما كان كونراد قبطاناً ميسوراً، ظل مينه بحاراً معسراً. ومثلما أبحرا على سطح البحار، حاول كلاهما أن يسبر أغوار وأعماق الحياة والإنسان.


وبمجرد أن نجح كونراد أدبياً، لم يعد في حاجة إلى الصراع مع البحر القاهر، لكن مينه غاب عن 40 مؤلفاً لم يكفِ ريعها لحياة غير قلقة. كلاهما كان كثير الإنتاج. وكلاهما تخلّى عن موطنه الأول، أو فقده. فلم ينسَ مينه في حياته المديدة جروح لواء الإسكندرون، الذي نزعته فرنسا من سوريا إلى تركيا. أما كونراد فهو الذي قرر، في السابعة والعشرين، أن ينصرف إلى الكتابة بالإنجليزية والاستقرار في إنجلترا. واختصر اسمه البولندي تيودور كونراد نالزيك كورينزوفسكي إلى جوزف كونراد فقط. ولم يعتبره البريطانيون مواطناً لهم، لكن فيرجينيا وولف وصفته بأنه «زائرنا العظيم». تميّز القبطان كونراد بلغة سواه، أما الملاح البسيط من حي «المستنقع» في الإسكندرون، فقد تميّز بلغته. بها كتب، وبها عمل مدرساً في الصين. فعندما هرب من واقعه، اتجه شرقاً نحو بلاد الرفاق. ومن الرفاق اختار أفقرهم وأكثرهم تزمتاً والتزاماً بظلم العوز والشظف والعيش بين الطيور الناعقة، تماماً مثل محمد شكري. ولذلك، ذهب إلى صين تلك الأيام المقننة بقبضة من الأرز المسلوق.


عالم كونراد كان ملتزماً أيضاً. أبطاله كانوا متواضعين سواء عاشوا على السفن المبحرة أو عملوا في البقالات المتوسطة. جميعهم يكدّون ويتعبون ويرفضون خداع النفس.

&