خالد غزال

لا يزال موضوع تشكيل الحكومة اللبنانية يدور في حلقة مفرغة، وسط التجاذبات والصراع على الحصص واستعادة الصلاحيات. إذا كانت هذه القضايا تمثل استعصاءات حقيقية في وجه التشكيل، إلا أن الحلقة الأساسية في التعقيد برزت في الآونة الأخيرة، وتدور حول الموقع الإقليمي الذي يجب أن يتموضع فيه لبنان. كان «حزب الله صريحاً في الدعوة إلى التموضع في المعسكر الإيراني – السوري، بوصفه المنتصر حالياً ومستقبلاً في سورية والعراق واليمن. تجمع أكثر من قوة سياسية على اعتبار هذا المعطى له الأولوية، وقد بدأت ترجمته عملياً من خلال الزيارات التي يقوم بها وزراء محسوبون على هذا المحور، وتكريسهم تطبيعاً مع النظام السوري بحكم الأمر الواقع، وخلافاً لأي توافق سياسي على مثل هذا التطبيع.

ماذا يعني التحاق لبنان بالمحور الإيراني - السوري؟ وما تداعياته اللبنانية الداخلية، وما سيرتبه في العلاقات الخارجية للبنان، سواء في محيطه العربي أم الدولي؟ من دون تجنٍّ على الطبقة السياسية التي تقود البلاد اليوم، يمكن وصف ممثلي هذه الطبقة بأنهم فئة من «الجهلة» بتاريخ لبنان والأسس التي قام عليها والصراعات الأهلية التي انخرط فيها. قام لبنان عند استقلاله على قاعدة جوهرية شكلت نقطة محورية في ميثاقه الوطني وهي ابتعاده من الصراعات العربية – العربية، وعدم الانحياز إلى أي معسكر من معسكرات الصراع في المنطقة. هذه القاعدة الذهبية هي ما عرفت في السنوات الأخيرة بـ «النأي بالنفس». تذكيراً لهولاء الجهلة بالتاريخ والمجتمع اللبناني، إن الحروب الأهلية والصراعات الدموية التي عرفها لبنان على امتداد تاريخه، منذ الاستقلال حتى اليوم، كان سببها اختلال علاقات لبنان بمحيطه العربي والانحياز إلى معسكر من معسكراته القائمة.

فالحرب الأهلية التي انفجرت عام 1958 (فترة لم تكن الطبقة الحاكمة قد أبصر أفرادها النور)، كان سببها انحياز لبنان إلى حلف بغداد الذي تقوده الولايات المتحدة، في زمن صعود الناصرية والتيارات القومية العربية. هذا الانحياز نجم عنه انقسام أهلي، سياسي وطائفي، عندما سعى رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون إلى زج البلد في هذا الحلف. انتهت الحرب بإعادة تكريس ما كان الميثاق الوطني نص عليه.

في سبعينات القرن الماضي، ومع التمركز الفلسطيني في لبنان واحتلاله موقعاً سياسياً وعسكرياً، وتدخله في الحياة اللبنانية، معطوفاً على انحياز قوى لبنانية سياسية وطائفية إلى المقاومة الفلسطينية، وسعيها إلى توظيف هذه المقاومة في تغيير النظام السياسي اللبناني، كان هذا الانحياز أحد أسباب الحرب الأهلية التي عرفها البلد، والتي لا تزال آثارها تلقي بثقلها على مجتمعه.

في عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان، ونصبت رئيساً للجمهورية هو أمين الجميل. سعى الجميل إلى ربط لبنان باتفاق سلام مع إسرائيل، ووسط انحياز كامل إلى هذا المعسكر. نجم عن هذا الانحياز اندلاع حرب أهلية متجددة كان الجبل ساحتها الرئيسية، ولم تزل نتائجها السلبية قائمة.

بعد اندلاع الانتفاضة السورية، انخرط «حزب الله» في الحرب السورية دعماً للنظام، وهو ما تسبب، ولا يزال، في انقسام المجتمع اللبناني، بين مؤيد ومعارض. وإذا كان البلد لم يشهد حتى الآن ترجمة عسكرية لهذا التدخل على أراضيه اللبنانية، إلا أن الجهلة من الحكام يجب أن يدركوا أن لبنان يعيش حقاً حرباً أهلية في الوقت الراهن، تجد ترجمتها في التراشق الكلامي، وفي الاحتقان المتزايد الذي يتغذى من التحريض الطائفي والمذهبي. لم ينفع إعلان بعبدا أيام حكم الرئيس ميشال سليمان في منع «حزب الله» وقوى لبنانية أخرى من التدخل في الحرب السورية.

كان إيراد هذه الحوادث المفصلية في التاريخ اللبناني للإضاءة على مترتبات الدعوة المباشرة والفجة لالتحاق لبنان بالمعسكر الإيراني - السوري، وتعليق حياته السياسية رهناً بهذا الالتحاق وتكريسها نصاً قانونياً في البيان الوزاري للحكومة المقبلة. على رغم أن القول بانتصار هذا المحور عليه أكثر من علامة استفهام، في ظل التناقضات والصراعات التي تحيط بالحرب السورية، إلا أن نتائج الدعوة هذه يمكن تلمسها بسهولة. على الصعيد العربي، سيكون رد الفعل قوياً ضد لبنان لجهة قطع شرايين اتصال اقتصاده بالمحيط العربي الذي يبقى الممر الأساسي اقتصادياً، سواء من خلال الاستثمارات العربية أو تصريف الإنتاج اللبناني، أو في منع مواطني البلدان العربية من المجيء إلى لبنان.

أما دولياً، في وقت يستجدي لبنان المساعدات والقروض من المعسكر الدولي، وفي ظل الصراع الأميركي - الإيراني والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران وعلى من يتعاون معها، فإن الآثار المترتبة على الانحياز لإيران ستكون كارثية على لبنان، حيث من الصعوبة بمكان أن ينجو لبنان من هذه العقوبات.

فهل يعي الحكام الجهلة بالتاريخ اللبناني وبتركيبة مجتمعه السياسية والأهلية، أخطار الدعوة إلى الإخلال بتوازن العلاقات اللبنانية - العربية؟ لا يوحي الجواب بصحوة من فئة لا ترى أبعد من أنفها، ولا تعنيها سوى مصالحها الفئوية والخاصة.

* كاتب لبناني