&أزراج عمر

تبني قضية المساواة في الميراث من طرف قيادة حزب الأرسيدي هو نمط من التفكير الراغب في حرق المراحل، ولا يمكن إنضاج النقاش الجدي حولها قبل تصفية بقايا الثقافة الإقطاعية في المجتمع الجزائري.

&

تبني قضية المساواة في الميراث نمط من التفكير الراغب في حرق المراحل

أثارت دعوة محسن بلعباس، رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية الجزائري، إلى المساواة بين الرجال والنساء في الميراث عاصفة من الرفض لدى حراس الأصولية الإسلامية في الجزائر، حيث اعتبروها مناهضة لما سموه بتقاليد المجتمع الجزائري المسلم، وكان في مقدمة الرافضين جمعية العلماء المسلمين التي يرأسها عبدالرزاق قسوم، وبعض الشخصيات الإسلامية الأصولية مثل ناصر حمدادوش.

من المعلوم أن محسن بلعباس قد تقدم بهذه الدعوة يوم السبت الماضي بمناسبة الندوة الدولية التي انعقدت بالجزائر حول “المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمرأة في شمال أفريقيا”، وأبرز فيها أن حزبه قد سبق الإخوة التونسيين في هذا المطلب.

والسؤال المطروح بخصوص هذه الزوبعة هو هل ينطلق حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية من قناعة راسخة وفهم تاريخي لتعقيدات البنية الثقافية والدينية والنفسية للمجتمع الجزائري، أم أن دعوته لا تتجاوز نطاق الاندفاع الانفعالي غير المؤسس على العقلانية والحسابات السياسية الدقيقة في محاولة منه لصنع الحدث السياسي السريع، ومن أجل ترقيع سمعته التي بدأت تتعرض للتآكل لأسباب متراكمة، ونذكر هنا ما يلاحظه المراقبون السياسيون في السنوات الأخيرة ويتلخص في أن حزب التجمع (الأرسيدي) يعاني منذ مدة أزمة كبيرة يمكن أن تعصف به وتجعله مجرد رقم ثانوي لا تأثير له في المشهد السياسي الجزائري. وفي الواقع فإن التحول السلبي لهذا الحزب يتمثل أولا وقبل كل شيء في تفكك وتضارب وجمود مواقف أغلب عناصر الجيل التاريخي الذي أسسه.

يمكن القول إن فقدان حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية لمصداقيته السياسية والأخلاقية راهنا، أمام مريديه وأتباعه السابقين حتى في القسم الشمالي من الجغرافيا الأمازيغية، هو نتيجة لتورط معظم هؤلاء القياديين التاريخيين المؤسسين لهذا الحزب عام 1989 في الدخول في عملية انتهازية مكشوفة، تتمثل في التكالب على تقاسم مواقع النفوذ في عدد من مؤسسات السلطة التشريعية والوزارية مع النظام الحاكم، باستثناء فرحات مهني الذي اختار ولا يزال حتى الآن التمسك بالموقف المعارض من باريس، وعدد قليل من عناصر الجيل الثاني الذي عوض الجيل المؤسس في الهياكل القيادية لحزب “الأرسيدي”.

بناء على هذا الوضع فإنه يمكن تأويل استخدام حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية لدعوة المساواة في الميراث على أنها مجرد ردود فعل على هامش الملعب السياسي، بقصد جمع أنفاسه المبعثرة بعد حدوث شروخ أخرى فيه لها علاقة عضوية بانحسار شعبية هذا الحزب جراء تلاشي بريق قضية اللغة الأمازيغية التي كان يوظفها في سنوات “الاحتباس الإثني” في السياسات الجزائرية لصالحه.

وقد تعمق هذا الانحسار لدى هذا الحزب بعد انفراط عقد أحزاب المعارضة الجزائرية وتحولها إلى إقطاعيات مجهرية متضاربة المواقف والولاءات أولا، وبعد قيام النظام الجزائري ثانيا بسلسلة من الإجراءات البراغماتية التي غيرت السلوك النفسي لدى الإثنية الأمازيغية ومنها اعتراف النظام ومن ورائه الرئيس بوتفليقة باللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية للبلاد وبمناسبة اعتماد يوم 12 يناير كعطلة مدفوعة الأجر وكعيد وطني رسمي لجميع الجزائريين.

لا شك أن سكوت حكومة النظام الجزائري وأحزاب الموالاة وكذلك أحزاب المعارضة المتأرجحة بخصوص دعوة حزب الأرسيدي يعني أنها غير معنية بأطروحات الحزب، حيث يفهم من ذلك أن السلطات الجزائرية تريد أن تنأى بنفسها عن الصراعات في الوقت الراهن، وتفضل أن تتنزه من بعيد عن تناحر الإسلاميين وما يسمى بأحزاب المعارضة العلمانية إدراكا منها أن المنطقة الأمازيغية، التي يدعي حزب الأرسيدي أنه الممثل الأساسي لها في الحياة السياسية، غارقة في انشغالات أخرى لا علاقة لها ببذخ الخصومات الأيديولوجية أو الدينية، وفي مقدمة هذه الانشغالات البطالة المستشرية بين أوساط الشباب والشابات، والعنوسة المتزايدة والمخلة بالتوازن الاجتماعي، والصعوبات الاقتصادية التي تطحن النسبة الكبرى من الأسر الجزائرية، والخوف من عودة رهاب العنف الذي خلخل المجتمع الجزائري طوال العشرية الدموية.

وفي تقدير نخبة من السياسيين والمثقفين فإن تبني قضية المساواة في الميراث من طرف حزب الأرسيدي هو نمط من التفكير الراغب في حرق المراحل، حيث يرى هؤلاء أنه لا يمكن إنضاج النقاش الجدي حولها قبل تصفية بقايا الثقافة الإقطاعية في المجتمع الجزائري، وتفكيك البنية الذهنية الجزائرية التقليدية التي لم تقم بقطيعة راديكالية مع السجل الرمزي والمادي الذي يستند إلى الرؤية الذكورية السائدة في هذا المجتمع، وهي الظاهرة التي يستنسخها الجزائريون بوعي حينا وبلا وعي في الغالب ويقومون بصنع العلاقات بين المرأة والرجل على أساسها. وبعبارة أخرى فإن هذه النخبة ترى أن البداية تكون بتحديث قوانين الأسرة وذلك بما يؤسس للقبول بفكرة الاختلاف بين الجنسين، ولكن في ظل المساواة الكاملة في جميع الحقوق بما في ذلك الملكية العقارية والمالية.

&