تتزامن الذكرى الـ88 لتأسيس المملكة العربية السعودية، مع حراك دبلوماسي وسياسي شهدته مدينة جدة خلال الأيام الماضية، تمثَّل في مصالَحات إقليمية مهمة لدول القرن الأفريقي، حيث عايشنا الأحد الماضي (16 سبتمبر/ أيلول 2018)، توقيع اتفاقية السلام بين إثيوبيا وإريتريا برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وتلك خطوة تاريخية استبشر بها الجميع على أمل أن يصبّ حل أطول نزاع في القرن الأفريقي إيجاباً في الجانب الإنمائي، ويعزِّز الأمن والاستقرار والاقتصاد في منطقة الدول المحيطة بالبحر الأحمر. وقد اضطلعت المملكة بفضل دبلوماسيتها الحكيمة بدور بارز في تحقيق المصالحة بين الجارتين بعد طول قطيعة بدأت بحروب ومناوشات حدودية عام 1998م.

وفي اليوم التالي لتوقيع اتفاقية السلام الإثيوبية - الإريترية، وفي مدينة جدة نفسها، وبرعاية مباشرة من خادم الحرمين الشريفين، وولي العهد، شاهدنا مصافحةً ومصالحةً تاريخية بين رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله، ونظيره الإريتري أسياس أفورقي، إيذاناً بطي صفحة القطيعة بين الجارتين واستعادة الثقة بينهما، في الطريق إلى وضع حل واحد نهائي لأسباب الخلاف بالوصول إلى ترسيم الحدود المرضي لكلا الطرفين، ليكون حلاً أبدياً لكل الأجيال القادمة.

وفي اليوم الرابع، أي الأربعاء 19 سبتمبر، قدم إلى المملكة رئيس وزراء باكستان عمران خان في أول زيارة خارجية له بعد وصوله إلى منصبه الحالي في يوليو (تموز) الماضي، مؤكداً في تصريحات إعلامية أن أي مسؤول يتولى مقاليد الحكم في باكستان عليه أن يزور المملكة أولَ وجهة خارجية، في دلالة واضحة على الريادة الاستثنائية لبلاد الحرمين الشريفين على المستويين الإقليمي والعالمي.

وعودة إلى مصالحات جدة، فإنني أود أن أشير هنا إلى أنها أتت تتويجاً للحراك الدبلوماسي السعودي النشط في منطقة القرن الأفريقي المتمثل في الزيارات المكوكية لوزير خارجية المملكة عادل الجبير، في التاسع من أغسطس (آب) الماضي، إلى كل من أسمرا وأديس أبابا، ولقائه مع قادة البلدين، وكذلك زيارة وزير الدولة للشؤون الأفريقية أحمد قطان إلى جيبوتي في 30 يوليو الماضي، حيث سلَّم للرئيس إسماعيل عمر جيله رسالة خطية من أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.

وبهذا التتويج رسم قادة المملكة الفرحة على وجوه مواطني دول القرن الأفريقي الذين رَحَّبوا باستعادة العلاقات وفتح الحدود بمشاعر مفعمة بالأفراح، علماً بأن شعوب منطقة القرن الأفريقي يرتبط بعضها ببعض بروابط إنسانية وصلات قرابة.

ومن خلال سرد الأحداث السابقة، يتضح جلياً ما تتمتع به هذه الدولة العظيمة من مكانة عالمية مرموقة مردها الثقل الديني والسياسي والجغرافي والاقتصادي. وإن غاب حضورها في القرن الأفريقي في فترة سابقة، فها هو اليوم عاد في هذه المرحلة الجديدة من التاريخ أكثر قوة وازدهاراً وتأثيراً.

لم يكن أحد يتخيل انتهاء مشكلات دول القرن الأفريقي في وقت وجيز كهذا؛ فالصراع الإثيوبي - الإريتري على مثلث بادمي الحدودي استمرّ 20 عاماً، وخلَّف أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى، كما استمرَّ الخلاف الجيبوتي - الإريتري نحو عشر سنوات شهدت بعض المناوشات الحدودية التي راح ضحيتها أيضاً أعداد من القتلى والجرحى من الجانبين، ولكن عوامل عدة ساعدت على حلحلتها والتوصل إلى تجاوزها، وفي مقدمتها الدبلوماسية السعودية الرصينة والسياسة الحكيمة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، التي يشرف عليها بهمة عالية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وكذلك المكانة الاستثنائية التي تتمتع بها المملكة وما تلقاه من تقدير واحترام من قبل دول منطقة القرن الأفريقي، إضافة إلى سجلها المشرّف في رعاية السلام وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء في أكثر من بلد عربي وغير عربي.

ونظراً للدور الكبير للأمير محمد بن سلمان في تحقيق هذه الإنجازات الرائعة، فقد أثبتت مصالحات جدة للعالم بأسره ما يتميز به ذلك الأمير من صفات قيادية نادرة وذكاء وحصافة وبُعد نظر سياسي ودبلوماسي، فقد تابع بنفسه بشكل دؤوب المحادثات التي سبقت اتفاقية السلام الإثيوبية - الإريترية والمصالحة الجيبوتية - الإريترية في جدة، ونجح بفضل حنكته وبراعته السياسية في تقريب وجهات النظر بين قادة هذه البلدان من خلال تواصله المباشر معهم.

ليس ذلك بمستغرب على الأمير محمد بن سلمان؛ فهو رجل الإنجازات والدقة في التنفيذ، وهو مهندس «رؤية 2030» الهادفة لتنويع الاقتصاد السعودي وإحداث نقلة نوعية تحقق الريادة العالمية للمملكة في مختلف المجالات.
والمتأمل في سيرة ولي العهد يدرك بوضوح أنه اجتمعت فيه الصفات القيادية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، والمؤسس الملك عبد العزيز، الذي وحَّد هذه البلاد المباركة مترامية الأطراف، وأرسى فيها دعائم الوحدة والتطور والنماء والازدهار حتى وصلت المملكة العربية السعودية الشقيقة إلى ما وصلت إليه من مكانة دولية مرموقة.

وإلى جانب أدوارها المشرّفة في رعاية السلام، فقد عُرفت المملكة العربية السعودية بأياديها البيضاء لدعم التنمية في الدول النامية، وذلك من خلال مؤسساتها المانحة، وعلى رأسها الصندوق السعودي للتنمية الذي يسهم في تمويل المشاريع الإنمائية وتطوير البنى التحتية في كثير من البلدان الشقيقة والصديقة.

وعن العلاقات بين جمهورية جيبوتي والمملكة العربية السعودية، فإن جذورها تعود إلى ما قبل نيل جيبوتي استقلالها عام 1977م، حيث كانت المملكة هي الداعم الأساسي لها قبل الاستقلال، لتتعزز هذه العلاقات الاستراتيجية بعد الاستقلال، وتزداد قوة ومتانة يوماً تلو آخر، بفضل التناغم في الرؤى السياسية والاستراتيجية بين قيادتي البلدين الشقيقين، الرئيس إسماعيل عمر جيله، وأخيه الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وهو ما كان له عظيم الأثر في نجاح المصالحة بين جمهورية جيبوتي ودولة إريتريا. ونحن متفائلون وعلى ثقة تامة بأن المملكة ستتمم هذه المصالحة بطي صفحتها النهائية.

حمى الله المملكة العربية السعودية الشقيقة وأدام عليها الأمن والاستقرار والتقدم والازدهار وحفظ قادتها وولاة أمرها... وكل عام وأنتم بخير.

* سفير جيبوتي وعميد السلك الدبلوماسي لدى السعودية