& هالة مصطفى

&أثار صدور كتاب «الخوف» للكاتب الصحفى الشهير بوب وودورد بما حظى به من اهتمام بالغ فى الداخل والخارج الأمريكى, موجة جديدة من الجدل حول مصير الرئيس دونالد ترامب, الذى يعيش منذ فترة ليست بالقصيرة أزمة داخلية عنيفة قد تُخضعه فى النهاية, إلى جانب أفراد من عائلته وفريقه الرئاسى، للمثول أمام لجنة التحقيقات المستقلة التى يرأسها مولر بتهم تبدأ باستغلال النفوذ والتربح والعلاقات الخاصة إلى التعاون مع روسيا للتدخل فى الانتخابات الرئاسية، ويتزامن ذلك مع هجوم كاسح تشنه عليه أغلب، إن لم تكن كل وسائل الإعلام والصحافة باستثناء قناة فوكس نيوز المعروفة باتجاهاتها اليمينية المحافظة ودعمها الجمهوريين, لكن الحملة ضد الرئيس امتدت أيضا إلى داخل حزبه الجمهورى, الذى تخشى بعض قياداته من أن يتحول الرئيس إلى عبء عليه, خاصة مع اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفى للكونجرس نوفمبر المقبل، ووصل الأمر إلى درجة أن أوصى السيناتور الجمهورى الراحل جون ماكين بألا يشارك ترامب فى مراسم تأبينه، ثم جاء المقال المنشور دون اسم فى الــ «نيويورك تايمز» منسوبا إلى أحد المسئولين بالبيت الأبيض والذى تحدث عن دور النخبة الحاكمة فى تعطيل قرارات ترامب حماية للمصالح العليا للولايات المتحدة, ليؤكد اجتياح تلك العاصفة الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس، وهذه المؤشرات مجتمعة هى التى رجحت إمكان عزل ترامب، فهل بات هذا السيناريو قريبا بالفعل؟

يوجه الكتاب ـ كما عرضت الـواشنطن بوست لبعض أجزائه ـ نقدا لاذعا لشخص ترامب لجهله بقواعد السياسة والأسس التى تحكم النظام السياسى الأمريكى، وطغيان صفته كرجل أعمال لا يفهم سوى لغة الصفقات التجارية على كل قراراته وتعاملاته الدولية، وهو ما يدخله فى صدامات لا تنتهى مع حلفاء واشنطن التاريخيين، ضاربا أمثلة بمواقفه السلبية من حلف الناتو (مع ملاحظة أن أوروبا على خلاف ما جاء بالكتاب استجابت لأغلب قرارات ترامب) وتراجعه عن كثير من الاتفاقيات الثنائية مع دول مثل كندا والمكسيك وكوريا الجنوبية, ناهيك عن تقلباته المزاجية التى تقوده إلى تبديل مواقفه بنسبة كبيرة وغير متوقعة.

المعروف أن نفس الكاتب كان مشاركا رئيسيا فى الكشف عن فضيحة ووترجيت وهو ما يجعل المقارنة تلقائية بين نيكسون، الذى أجبر على الاستقالة إثر هذه الفضيحة وترامب، ولكن تجدر الإشارة أيضا إلى أنه سبق له إصدار كتب نقدية عن بوش الابن وحروبه فى أفغانستان، ورغم ذلك أعيد انتخابه لفترة ولاية ثانية وكذلك عن الحروب السرية لوكالة المخابرات المركزية وغيرها، وكلها أثارت ضجة كبيرة فى حينها، وبالتالى وعلى الرغم من أهمية كتاب الخوف فإنه لا يُعد وحده مؤشرا كافيا للحكم على مصير الرئيس الأمريكى أو الجزم بأنه يسير بالضرورة على خطى نيكسون.

فى المقابل هناك وجهات نظر أخرى تشبه ترامب بالرئيس الأسبق رونالد ريجان, حيث تجمعهما كثير من القواسم المشتركة، فكلاهما واجه صعوبات كبيرة فى البداية وتحديدا فى الترشح للرئاسة عن حزبهما الجمهورى، وصاحب دخولهما البيت الأبيض صخب شديد وسط انقسام حاد بين جمهور الناخبين، بل واتُهما بالجهل وافتقاد الخبرة السياسية، وتم التندر على خلفياتهما المهنية قبل الوصول للمنصب، فريجان عمل معلقا رياضيا ثم ممثلا سينمائيا وُصف بالفاشل، وترامب الملياردير المعروف كان بالمثل مقدما لبرامج تليفزيونية ترفيهية، والأهم أنهما يُعتبران من أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين تجاوزوا مؤسسات الدولة, وكان لريجان رد شهير على سؤال وُجه إليه بهذا المعنى فقال حرفيا: أليس هذا سبب وجودى هنا؟، فى إشارة إلى قاعدته الجماهيرية التى أوصلته للحكم بسبب تمرده على التقاليد التى تحرص عليها تلك المؤسسات المنوط بها الحفاظ فقط على الوضع القائم، وهو تقريبا ما قاله ترامب عن جمود المؤسسات وعدم قدرتها على اللحاق بأساليب العصر الحديث فى التواصل المباشر مع المواطنين أو امتلاك القدرة على المبادرة والتغيير، وأخيرا كان الصدام مع الصحافة والإعلام سمة مشتركة بينهما، وبالمناسبة لم تكن مصادفة أن يصف ترامب ريجان بـالرئيس العظيم والزعيم الأعظم.

أما من جهة السياسات العامة, فقد كانت حقبة ريجان من أهم الحقب التى شهدت إنجازات اقتصادية, حيث ارتفعت معدلات النمو والتشغيل وانتعشت البورصة وانخفضت نسب البطالة والتضخم، وهو نفس الإنجاز الذى يفاخر به ترامب اليوم بعيدا عن خطابه الشعبوى ليدلل به على سلامة توجهاته التى تهم المواطن الأمريكى أكثر من أى شيء آخر، وعلى صعيد السياسة الخارجية مازال الأمريكيون يعزون الفضل لريجان فى تبنى سياسات حاسمة فى مواجهة الاتحاد السوفيتى أدت فى نهاية المطاف إلى انهياره وتفكيك حلف وارسو وقبلهما إسقاط سور برلين, فضلا عن استعادة مواقع الولايات المتحدة فى أمريكا اللاتينية التى فقدتها تحت إدارة سلفه كارتر، حتى إنه رغم الهجوم الضارى الداخلى عليه لم يتردد فى استخدام القوة العسكرية خارجيا وكان المثال الأبرز هو غزوه جزيرة جرينادا بأمريكا الوسطى فى النصف الأول من الثمانينيات قمعا لحكومتها اليسارية وقتئذ، بعبارة أخرى كان ريجان من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل ولكنه هو نفسه من يُشار إليه الآن كرئيس نجح فى إعادة الهيبة والنفوذ لبلاده والذى لم يتوان فى اتخاذ أخطر القرارات فى سبيل تحقيق أهدافه، ولهذه الأسباب انتُخب لفترتين رئاسيتين.

قد يكون ذلك هو «اللامنطق» الأمريكى، الذى يجعل من الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور، إذ ليست هناك قواعد ثابتة أو مقياس واحد يمكن من خلاله معرفة مستقبل أى رئيس سواء اتفقت أو اختلفت حوله الآراء، ومن ثم تبقى مسألة العزل من عدمه من المسائل الداخلية، لأنه حتى فى حالة حدوثه افتراضا (وهو أمر لم يقع طوال التاريخ الأمريكى وإن كانت هناك فقط ثلاث حالات تعرضت له دون أن يتم فعليا) فإن الذى سيُكمل فترته الرئاسية هو نائبه أى مايكل بنس، والواقع أنه ليست هناك خلافات جوهرية بين الاثنين فيما يتعلق بسياستهما خاصة إزاء منطقة الشرق الأوسط، والتى تهمنا بالدرجة الأولى، مثال قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس, أو الانسحاب من الاتفاق النووى مع إيران وفرض عقوبات عليها, أو الحديث عن صفقة القرن والضغط على السلطة الفلسطينية وسحب التمويل الأمريكى لمنظمة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا), والأكثر من ذلك أن هذه الأجندة لم تلق معارضة من الحزب الديمقراطى المنافس، فالحزبان يتسابقان على الحصول على دعم اللوبى اليهودى, والذى مازال مؤيدا بقوة لترامب بفعل تلك السياسات. إذن بقى الرئيس الأمريكى (وهو الأرجح) أم ذهب، فإن الأمر لن يختلف كثيرا.