&المنتصر السويني&

&

مقدمة:

البلوكاج الذي شهده المغرب بعد تعيين السيد بنكيران رئيسا للحكومة، والصراع الذي عرفته هذه المرحلة، والذي انتهى بتعيين السيد العثماني رئيسا للحكومة، لا يمكن اعتباره بلوكاج عابرا فقط، بل أزمة انتظر الكل أن تبصم الزمن القادم وتؤثر فيه وتحيطه بضلالها، وخصوصا مرحلة الولاية التشريعية (2016-2021).

هذه الأزمة جعلت مجموعة من الفاعلين تطلق الدعوات من أجل الانتقال إلى مرحلة التدبير الاستثنائي، إلا أن السلطة الملكية كانت واضحة فيما يخص اختيار العمل من داخل المظلة الدستورية، وخصوصا الزمن الدستوري العادي والشرعي، لأن الملكية كانت تعي كذلك أن كلفة الحل الاستثنائي أكبر بكثير من كلفة الحل السياسي العادي والشرعي.

البقاء تحت مظلة المشروعية الدستورية العادية لا يعني أن فعل الملكية مقيد، بل ستؤكد الأحداث اللاحقة أن الملكية تملك حقيبة من الخيارات من داخل الزمن الدستوري الشرعي.

هذا البلوكاج أثبت من جهة أن الزمن الذي كان فيه النظام يعتمد على خدام للدولة أوفياء ومطيعين-grandeurs et servitudes-، قد ولى إلى غير رجعة، وأن خدام الدولة اليوم صاروا أمام تحدي ثنائية الإمكانات والتحديات (moyens et contraintes)، وبالتالي صاروا يشترطون توفير الإمكانات التي تمكنهم من مواجهة التحديات (الباحث جون رفائيل ألفونتوس).

من جهة أخرى، غياب ما سبق وأكد عليه الباحث دال، من أنه في البداية يجب البحث عن تحديد العلاقة الديمقراطية بين المكونات السياسية والمؤسسات الدستورية، قبل البحث عن دمقرطة المجتمع، الشيء الذي يعني التأكيد على ضرورة البحث عن توافقات ممأسسة حول القيم الحضارية، والتصرفات الاستراتيجية للفاعلين، بغية تهييئ الظروف والشروط القبلية للتوافق المؤسساتي.

التنظيمات والمؤسسات هي هياكل جامدة، ولا تتغير إلا بفعل الفاعلين، سواء كانوا أشخاصا فرادى أو جماعات. غياب هذا التوافق المؤسساتي القبلي سيدفع الملكية إلى النهل من حقيبة الاختصاصات الواسعة التي يتيحها لها الدستور. وسنعمد إلى قراءة في الفعل الملكي ونتائج هذا الفعل على الحكامة الديمقراطية والحكامة المتدرجة.

1. الملكية تركز في المرحلة التشريعية الحالية على ما يطلق عليه بمشاكل حكامة الذات

يؤكد ميشيل فوكو أن ممارسة السلطة لا تنحصر فقط في المشاكل المرتبطة بحكامة المجتمع، من خلال حكم الأشخاص والأشياء، بل وتتجسد كذلك في حكامة الذات من خلال إنتاج المعارف والتطبيقات والبرامج وتوحيد الرؤى لدى الأجهزة التقريرية داخل الدولة (المؤسسة الملكية-المجلس الوزاري-المجلس الحكومي)، وتحقيق ذلك يتم من خلال معرفة الذات المرتبطة بالمؤسسات الحاكمة.

البلوكاج الذي أعقب انتخابات 2016، والمشاكل المرتبطة بالتأويلات الدستورية المختلفة بين الفاعلين السياسيين، دفع الملكية إلى الاهتمام بما يطلق عليه بحكامة الذات، الاهتمام بترتيب البيت الداخلي، تم من خلال التركيز على استعمال الحكامة الرئاسية والعمودية، وكذلك من خلال إعادة ترتيب ما يطلق عليه بتكنولوجية السلطة، وبكل ما يتعلق بشروط حسن اشتغال المؤسسات وكذلك الشروط التي تحدد فعل السلطة.

إذا كان الدستور المغربي قد عمل على خلق جهاز تنفيذي برأسين، رأس باختصاصات واسعة ويمثل قلب الدولة والجهاز المركزي فيها، ورأس باختصاصات ثانوية ويمثل مؤسسة تنفيذية ثانوية، فإن هذا الواقع يتطلب القيام بشكل حتمي بتنسيق قبلي بين المؤسستين.

وتخبرنا التجارب الدولية، أن الدول التي عملت على خلق جهاز تنفيذي برأسين كفرنسا مثلا، شهدت صراعا بين هذا الثنائي جعل الرئيس فرانسوا ميتران يرفض التوقيع على إجراءات الخوصصة التي قررتها الحكومة اليمينية برئاسة شيراك(1993)، مما جعل رئيس الدولة، يحرم البرنامج الاقتصادي لشيراك من موارد مهمة لتنفيذه، ورفض كذلك استئناف التجارب النووية التي كان يريدها شيراك (1995)، وعندما صار شيراك رئيسا للدولة في سنة (2001)، رفض تسجيل القضية الكورسية في جدول أعمال مجلس الوزراء والذي اقترحته الحكومة الاشتراكية برئاسة ليونيل جوسبان.

لم يعتبر الرأي العام الفرنسي، هذا الصراع مظلومية ووقوف من طرف رئاسة الجمهورية في وجه الإصلاحات الموعودة من طرف الحزب الحاكم كما هو الشأن في المغرب بل اعتبرت النخبة الفرنسية ذلك احتراما لسمو القاعدة الدستورية وأدرجت ذلك في إطار ممارسة الاختصاصات الموكلة للطرفين والمحددة بالنص الدستوري، (تطبيقا للمبدأ القانوني الذي ينص على أنه لا اختصاصات دون نص).

إذا كانت التجارب الدولية التي تتوفر على رأسين تنفيذين، قد خصصت وقتا مهما لمعرفة الذات، فيما يتعلق بالمعرفة القيادية لمؤسسات الدولة، وخصوصا ما يتعلق بالمعرفة المتعلقة بكل ما هو استراتيجي وتقريري وعملياتي، وكذلك الاتفاق حول الأهداف والنتائج المنتظرة، أي ما يطلق عليه التمكن من معرفة ممارسة السلطة، وإتقان فن الحكم، لأن فن الحكم يتطلب مميزات خاصة (ميشيل فوكو)، حتى تتم شرعنة ما أطلق عليه الباحث كايتي، التميز السياسي-excellence politique-.

في المغرب، اضطرت الملكية إلى الاهتمام بمشكل معرفة الذات المؤسساتية، لتوضيح هامش تحرك باقي المؤسسات(خصوصا بعد أن اختار بعض الفاعلين السياسيين التوجه إلى الإعلام والرأي العام، بدل التنسيق والتشاور مع المؤسسة الملكية) وإخضاع هذه المؤسسات للمقتضيات الدستورية في إطار السلطة الرئاسية والعمودية، بكل ما يعنيه ذلك من تحريك أجهزة الرقابة، وتفعيل الوجه الآخر لسلطة التعيين وهو سلطة الإعفاء(ووجب التأكيد هنا أن الملكية حركت أجهزة الرقابة لتثب وجود تقصير في القيام بالمهام، سواء كان تقصير سياسي أو إداري أو مالي، رغم أنه كان بإمكانها الاكتفاء بالإعفاء السياسي وهو إعفاء قد يحصل حتى في غياب الخطأ أو التقصير، أي إعفاء بدون خطأ)، لأنها كانت تريد وتؤكد على ضرورة معرفة المؤسسة التنفيذية لاختصاصاتها الدستورية، وكونها توجد تحت السلطة الرئاسية للملكية.

2. الملكية وترسيخ الزعامة المؤسساتية

مباشرة بعد انتخابات 2016، عمد بعض رموز الحزب المتصدر للانتخابات إلى العزف على سمفونية المشروعية الشعبية والتفويض الشعبي والإرادة الشعبية. هذا الخطاب كان يستهدف المؤسسات الدستورية الغير منتخبة وباقي الفاعلين السياسيين، مما يعني فتح الصراع ضمنيا حول الزعامة المؤسساتية. الصراع حول الزعامة المؤسساتية ليس صراعا جديدا، وقد جربته مجموعة من الدول في بداية قيامها بالإصلاحات الديمقراطية، ومن المفيد في هذا السياق التذكير بالمقولة الشهيرة للويس الرابع عشر (وإن لم يحصل إجماع حول صحتها) بتاريخ 13 أبريل 1655، في خطابه أمام البرلمانيين، حيث صرح قائلا: "أنا هو الدولة" (L’ Etat c’ est moi). الملك لويس الرابع عشر كان يحاول التأكيد على أولوية السلطة الملكية في الصراع المفتوح مع البرلمان.

ونذكر كذلك بما سبق وقاله ديغول في الندوة الصحافية التي عقدها في 31 يناير 1964، عندما أكد أن "السلطة غير القابلة للتجزئة للدولة هي بكاملها في عهدة رئيس الجمهورية (...) ولا توجد أية سلطة أخرى، لا وزارية ولا مدنية ولا عسكرية ولا قضائية، لا تستمد وجودها واستمراريتها من إرادتي المنفردة".

من خلال هذا الرد أراد ديغول، حسم الجدل حول الصراع بين المؤسسات (الرئاسة الفرنسية-الحكومة الفرنسية)، من خلال التأكيد على أن مؤسسة الرئاسة هي وحدها من تملك وتجسد وترسخ الزعامة المؤسساتية.

إن الجدل حول من يمثل الزعامة المؤسساتية في المغرب هو جدل محسوم بقوة النص الدستوري، ولكنه جدل سياسي يبرز للوجود كل ما صعد إلى منصب المسؤولية التنفيذية، أشخاص طموحهم أكبر من الاختصاصات المحددة بالنص الدستوري.

وقد سبق للعميد بيرديو أن أكد أن القواعد الدستورية شيء وما يحدث على ارض الواقع شيء آخر، لأن المؤسسات الدستورية ليست هياكل جامدة فقط (يصنعها المشرع الدستوري)، بل هياكل يعمل العنصر البشري على بث الروح فيها وقد يحلق بها عاليا متجاوزا النص الدستوري، مما يفتح ما يطلق عليه بالوجه لوجه المؤسساتي، وخصوصا عندما يغيب التنسيق المؤسساتي القبلي، وبالتالي تتضح أهمية التنسيق المؤسساتي.

3. الملكية قد تختار تعيين شخصية غير متوقعة بدل الشخصية الكاريزمية

إذا كانت الانتخابات في التجارب الدولية (سواء الدول التي تملك حكومة منتخبة أو تلك التي تملك حكومة معينة) قد عودتنا على وضعية اللايقين، إذ إن الانتخابات قد تمنح الأغلبية لحزب معروف يتوفر على زعيم يمتلك شخصية كاريزمية أو حزب غير مرشح للفوز، مما يؤكد أن الانتخابات (عمليا) قد تفتح الطريق لشخصية غير متوقعة إلى منصب الرئاسة.

العقل الدستوري المغربي حاول الحفاظ على هذا الغموض المحيط بالشخصية التي من المتوقع تعيينها، حتى بعد صدور نتائج الانتخابات ومعرفة الحزب المتصدر وزعيم الحزب المتصدر، فإن وضعية الغموض المحيطة بالشخصية التي قد تعين تظل قائمة، وحدها الملكية من تملك الصلاحيات الدستورية التي تخول لها اختيار الشخصية التي قد تتوافق معها وتكون مؤهلة للتعاون والتنسيق والتنفيذ.

الحرية التي يمنحها الدستور للسلطة الملكية لاختيار الشخصية المناسبة من الحزب المتصدر، تجعل الملكية تملك سلطة تقديرية، من أجل الاختيار بين شخصية كاريزمية من الحزب المتصدر، يملك ثقة الحزب ويحتل منصب القيادة في الحزب، وأشرف على قيادة الحزب في الانتخابات، أو أن تلجأ إلى تعيين شخصية غير متوقعة وتحتل مركز ثانوي في القيادة، (وحتى وإن عينت السلطة الملكية رئيس الحكومة فإنها تملك كذلك زمنا كافيا ممتدا من التعيين إلى غاية تشكيل الحكومة، لإعادة تكليف وتعيين شخصية أخرى من الحزب المتصدر، إذ لا وجود لأي نص يمنع رئيس الدولة من إعادة تعيين شخصية أخري في الزمن الفاصل بين تعيين رئيس الحكومة وتعيين الحكومة)، هذا الاختيار تتحكم فيه الظرفية السياسية ونوعية الشخصية المقترحة للتعيين، والدور المطلوب من المؤسسات في الزمن التشريعي المعني.

الباحث الفرنسي فليب أردون سبق له أن أكد أن "الحدود الفاصلة ما بين اختصاصات رئاسة الجمهورية الفرنسية ومنصب الوزير الاول الفرنسي هي غير أكيدة وكانت دائما تتغير، سواء لاعتبارات مرتبطة بطبيعة الأغلبية البرلمانية أو لظروف مرتبطة بالطبيعة الشخصية للرجلين"، لأن الشخصية المعينة، قد تملك طموحا أكبر وتريد تحسين ظروف ممارسة المهام وتعزيز موارد المنصب، وقد تفضل اللعب على ثنائية (شخصية من الحزب المتصدر وفي الوقت نفسه شخصية معينة) بدل الصفة الجديدة والوحيدة (وإن بنيت على الانتماء إلى الحزب المتصدر)، وهي فقط الشخصية المعينة.

ما أعقب انتخابات 2016، من تصرفات استهدفت تحسين وضعية مؤسسة رئاسة الحكومة، من خارج النص الدستوري، استدعت رد فعل من السلطة الملكية لإعادة الجميع إلى مظلة المشروعية الدستورية.

كما أن غياب التنسيق والتشاور المؤسساتي دفع الملكية إلى اختيار طريق الحكم الرئاسي، بما يتطلبه ذلك من تفعيل لآليات وميكانزمات الحكم الرئاسي (خصوصا في شقه المبني على ثنائية التفتيش والعقاب)، وما يعنيه ذلك من فرملة الاختيار الديمقراطي، وما يمثله كذلك من تراجع عن الحكامة الأفقية وعن خيار الحكامة المتطورة.

4. الملكية ترسخ ما أكد عليه الدستور من أن الحكومة في المغرب حكومة معينة وليست حكومة منتخبة

التغييرات التي جاء بها دستور 2011، خصوصا فيما يتعلق بمؤسسة رئيس الحكومة والحزب المتصدر، جعلت البعض يعتقد أننا أمام حكومة منتخبة، حكومة منبثقة من المشروعية الشعبية، مما جعله يحلق عاليا بمؤسسة رئاسة الحكومة.

الحكومة في المغرب هي حكومة معينة وليست حكومة منتخبة، لأن مجلس النواب لا ينتخب الحكومة مثل بريطانيا، بل يعكس فقط التغييرات في تكوينها، انطلاقا من تنوع الرأي العام في مجمله، وحدها الملكية بتنسيق مع رئيس الحكومة من تشكل الأغلبية بحرية كما لو كان اختيارا للمواطنين، وبالتالي تعمل الملكية ورئيس الحكومة على ترجمة الإرادة الشعبية إلى أغلبية، من خلال إعادة تشكيل الإرادة الشعبية، عبر تحالفات أغلبية، واعتبار هذا الاختيار كأنه اختيار للمواطنين، وهكذا عملت الملكية على التأكيد على أنها السلطة التي تملك دستوريا الحق في تحديد الأغلبية، وما يتبع ذلك من جزئيات.

إن صياغة الفصل السابع والأربعين من الدستور هي صياغة ذكية في هذا الاتجاه ويجب التوقف عندها، (يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها...)، إن قراءة متأنية في هذه الصيغة توضح أن السلطة الملكية تختار بحرية مطلقة شخصية من الحزب السياسي المتصدر، كما أن الشخصية المختارة من الحزب المتصدر وكذلك الحكومة يمتلكان قوة سياسية من خلال التعيين بظهير (قوة أمام الآخر، وليس قوة أمام الملكية التي يبقى بالنسبة لها شخص معين فقط وتحت سلطتها الرئاسية، ولكن البعض أراد أن يلعب على الصفتين، عندما يريد أن يستقوي على الملكية والآخرين، يستعمل الانتماء إلى الحزب المتصدر بدل شخص معين بظهير في منصب رئيس الحكومة)، وهذا التعيين بظهير ينقل هذه الشخصية من شخصية تنتمي للحزب المتصدر إلى شخصية سياسية وإدارية ومالية، ويعمل التعيين على نقل المعينين، من رئيس حكومة وأعضاء حكومة، من شخصيات سياسية إلى رجال من رجال الدولة بكل ما يعنيه ذلك من نقل الشخصيات المعنية من ثقافة وأهداف ومحركات رجال الأحزاب إلى ثقافة مغايرة، ثقافة رجال الدولة والمصلحة العامة والحياد الموضوعي واستمرارية الدولة، كما أن التعيين يجعل رئيس الحكومة وأعضاء الحكومة مباشرة تحت المسؤولية الرئاسية الفعلية للسلطة الملكية.

وبالتالي نخلص إلى أن التعيين يحجب نسبيا المرحلة السابقة (الانتماء إلى الحزب المتصدر)، ويجعل الشخص، يملك فقط ثقة وتعيين السلطة التي عينته، ويجعله وحكومته تحت رحمة سلطتها الرئاسية، وهذا ما تحاول الملكية إفهامه للطبقة السياسية في هذه المرحلة التشريعية، حتى لا تثار أية مشاكل من هذا النوع في المستقبل.

5. الملكية تتشبث بمفهوم الدولة القوية القادرة على الصمود في وجه المطالب الاجتماعية

تزامنت انتخابات 2016 مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، التي كانت بسبب عدم قدرة المؤسسات الدستورية على إيجاد الحلول، فعندما يتوجه المواطن إلى البرلمان ولا يجد الرجل الذي يمثل الشعب (homme-peuple)، ويتوجه المواطن إلى المسؤولين ولا يجد رجال الدولة (les hommes d etat)، ويتوجه المواطن إلى الإدارة ولا يجد الرجال الصادقين، (les hommes-honnêtes)، ويتوجه المواطن إلى العدالة ولا يجد الرجل الذي يمثل فعليا العدالة (homme-justice)، فإن المواطن لا يبقى له من خيار الا التوجه إلى الرجل الجموع (L homme- foule).

الرجل الجموع، هو التوصيف الذي أطلقته مجلة المعمل، (الممثلة للبروليتاريا)، سنة 1841، من خلال نداء للعمال، مفاده: أيها العمال لا ندعوكم إلى التجمهر حولنا، لأننا لسنا أشخاصا ولسنا أحزابا، إننا الجموع. هذه الجموع تعمد بعض الأحزاب إلى الركوب عليها من أجل تحسين شروط تفاوضها مع السلطة الملكية.

ولكن موقف السلطة الملكية كان واضحا، بحيث أفهمت باقي السلط أن هذه الاحتجاجات هي نتيجة لتقصير باقي السلط في ممارسة مهامها، وبالتالي عمدت الملكية إلى ملأ الفراغ، من خلال استعمال الملكية لزعامتها المؤسساتية من أجل الاضطلاع بمهامها وجعل باقي السلط تقوم بمهامها كذلك من خلال ثنائية (المراقبة-العقاب).

السلطة الملكية أرادت أن تثبت أن مرحلة الانحناء للعاصفة التي مارستها في 2011 هي تكتيك غير قابل للتكرار، وأن الوقت الحالي يتطلب من الملكية ممارسة استراتيجية الدولة القوية (بمؤسستها الملكية) القادرة على الصمود في وجه المطالب الاجتماعية، مع التأكيد كذلك على أن الدولة القوية هي دولة أبوية تعتمد في سياستها على استراتيجية أنها تعرف أحسن من المرتفق والمتعامل والمتظاهر (الباحثة سيلفي طروزا) وهي الوحيدة المؤهلة لتحديد الأجندة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يعني أن المشكل ليس في الأجندة وأولويات الأجندة بل في التنفيذ والبطء والتردد الذي يطبع فعل التنفيذ.

وهكذا عملت الملكية على نقل المشكل المرتبط بالاحتجاجات من المستوى الاستراتيجي والماكرو سياسي واقتصادي إلى المستوى السياسي والاقتصادي المتوسط والمستوى الميكرو سياسي والاقتصادي (الحكومة والإدارة بالأساس).

6. الملكية تجسد اعتمادها على نظرية "الأساسي-الفرد"

يحدد الفصل السابع والأربعون من الدستور أن الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر، كما أن الفصل الثامن والأربعين من الدستور ينص على أن "الملك يرأس المجلس الوزاري"، وبالتالي فإن الملك وانطلاقا من هذه السلط، يعتبر صاحب سلط يفوض تنفيذها لرئيس الحكومة والوزراء، ومن خلال دراسة العلاقة التي تنشأ (بين الملك-الوزراء) أي بين ما أطلق عليه الباحث جون هيبر نظرية "الأساسي-الفرد"، وإن كانت هذه النظرية طبقت في الغالب على التفويض الذي يمنحه الجهاز التنفيذي في علاقته مع الإدارة.

وتعتمد هذه النظرية على أن تفويض سلطة التنفيذ ما بين الأساسي والفرد يخلق مشكلة متعلقة بمدى التزام الفرد بتنفيذ ما يطلبه الأساسي، عدم الالتزام هذا ناتج عن اختلاف الأهداف والمصالح والتحفيزات، ما بين الأساسي والفرد، وبالتالي يجد الأساسي نفسه أمام عدم امتثال الوزراء أو غياب حسن التنفيذ أو التعارض في الأهداف.

وضعية التعارض هاته قد تدفع الأساسي إلى العمل من أجل تصحيح أداء مؤسسات تفويض التنفيذ، من خلال المراقبة (تحريك المجلس الأعلى للحسابات-المفتشية العامة بوزارة المالية-مفتشية وزارة الداخلية)، تفعيل الوجه الآخر للتعيين وتفويض الإنجاز للفرد (الوزير) أي الإعفاء من خلال استبدال الفرد الغير منضبط لشروط تفويض التنفيذ بفرد آخر قد ينضبط لشروط التنفيذ، أو من خلال إلغاء التفويض الثانوي عبر حذف كتابة الدولة في الماء، هذا الوضع جعل كلفة مراقبة مؤسسة مجلس الوزراء والمجلس الحكومي ترتفع في هذه الولاية، ورسخت الملكية جيدا شعار "الملكية تستمر والوزراء وكتاب الدولة يرحلون"، وأفهمت بالتالي الجميع من هي المؤسسة المستقرة ومن هم الأشخاص (الوزراء وكتاب الدولة) العابرون، وانتقلنا بالتالي إلى تدبير رئاسي عمودي، على حساب تدبير تشاركي يغلب عليه التنسيق الأفقي.

7. إخضاع فعل مؤسسة رئاسة الحكومة والحكومة إلى شرط الشرعية القانونية

حدد السوسيولوجي ويبير أن الدولة الحديثة تخضع لعاملين، يعتمد العامل الأول على العنف والعامل الثاني على القانون، والقانون بالنسبة لوبير هو نوع من العنف، والفرق بين القوة والسيطرة يتمثل في أن القانون هو سيطرة مقبولة.

يمثل رئيس الحكومة والوزراء صفة سياسية يحكمها الدستور من خلال كونهم وزراء، وصفة آمر بصرف الاعتمادات التي تخضع لتقنين القانون التنظيمي للمالية والقانون المالي والمرسوم الملكي المتعلق بالمحاسبة العمومية، وصفة مدبر إداري يخضع كذلك لقانون الوظيفة العمومية والمراسيم التطبيقية الخاصة به.

وجود اختلاف في الهدف والمصالح والتحفيزات ما بين الأساسي (الملكية) والفرد (الوزراء)، يعني إخضاع الفعل العمومي لرئيس الحكومة والوزراء للفعل الرقابي السياسي والمالي والإداري (وقد تحدثت مجموعة من الصحف الوطنية عن إخضاع مجموعة من الأعمال الحكومية والوزارية للرقابة، دون أن تعلم أنه فعل عاد وقانوني)؛ إذ إن ممارسة السيطرة المقبولة (من خلال القانون) تقتضي إخضاع الفعل الحكومي والوزاري للرقابة الإدارية والمالية، احتراما للمصلحة العامة وللقانون وللشكليات وللتعليل ولمبدأ الاختصاص.

مما يوضح أن الحكومة والوزراء وكتاب الدولة في المغرب وجدوا أنفسهم ليس فقط أمام الشعار الفرنسي الشهير "الوزراء يرحلون والموظفون مستمرون"، بل وكذلك أمام شعار خاص بطبيعة النظام السياسي بالمغرب وهو "الوزراء وكتاب الدولة يرحلون والملكية تستمر".

8. الولاية التشريعية الحالية تشهد تطبيق مرحلة الحكم العمودي المعتمد على السلطة الرئاسية القوية

يخبرنا التاريخ السياسي المغربي بأن الملكية اعتمدت على تعاقب (الحكم السلطوي-الانفتاح)، طموح الرأي العام المغربي والشعب الاجتماعي في تطبيق الحكامة المتدرجة قد خاب (نظرا لاهتمام السلطة في المغرب بترتيب وتحديد الفعل المؤسساتي الذي يأخذ وقتا وجهدا كبيرين، وبالتالي يقتطعان وقتا مهما من زمن الولاية التشريعية)، لأن الحكامة المتدرجة كانت تتطلب وجود عقد سياسي بين الطبقة السياسية، ليس على كل القضايا، ولكن على الأقل حول نواة صلبة، وفي غياب العقد السياسي حول نواة صلبة، وفي غياب التنسيق المؤسساتي القبلي، وفي ظل اهتمام المؤسسة الملكية بتهييئ وتوضيح وتفسير الشرط المؤسساتي الذاتي، فإنه لا يجب الرهان على هذه الولاية التشريعية، لأنها ستبقى ولاية مرتبطة بما يطلق عليه زمن البقرات العجاف.

ترسيخ زمن البقرات العجاف في هذه الولاية التشريعية يعني أن كل المشاكل والحلول المطلوب تنزيلها ستؤجل، ويعني بالتالي أن المغرب سيرفع مرة أخرى شعار "القليل من الحاضر من أجل المستقبل" moins de présent pour plus d avenir) )، أي الطلب من المجتمع بالاكتفاء بالقليل من الحاضر من أجل جنة المستقبل (الوهمية)، ولكن هذا الشعار من كثرة استعماله صار مفعوله منعدما.

وبالتالي على المغرب الرسمي أن يعي أن المغرب الفعلي والمغرب الاجتماعي يحتاج إلى ما أطلق عليه الباحث آن فيليب "سياسة الحاضر"، ضدا على سياسة الأفكار، أي سياسة الآني والفوري على سياسة الآتي والمستقبلي، لأن الشعب يؤمن بمقولة كينز التهكمية، عندما سألوه عن غياب المدى الطويل في تحليلاته، فرد قائلا: "في المدى الطويل سنكون جميعا أمواتا".

الخلاصة:

وجب الاعتراف في الأخير بأن الولاية التشريعية الحالية وما تعرفه من أحداث تجسد فعليا نهاية مرحلة كان النظام يعتمد فيها على خدام ومؤسسات للدولة أوفياء ومطيعين (grandeurs et servitude)، والانتقال إلى مرحلة يجد فيها خدام الدولة أنفسهم أمام تحدي ثنائية "الإمكانات والتحديات"(moyens et contraintes)، ولكن ورغم وجود التحديات، فإن التغيير السياسي لا يمكن أن ينتج إلا في إطار التفاعل ما بين المؤسسات، لأن المؤسسات هي في حد ذاتها جامدة ولكنها تتغير تحت فعل الفاعلين الشخصيين أو الجماعيين، مما يثبت أن وحده الفعل هي محرك التغيير، والتفاعل هو الميكانيزم الذي يوضح ذلك.

وفي حالة ما إذا اختار أي حزب متصدر اللعب لوحده دون العمل على التنسيق المؤسساتي القبلي، فإن هذا الحزب سيجد نفسه أمام شعار "الوزراء وكتاب الدولة يرحلون والملكية مستمرة" من جهة، ومن جهة أخرى شعار "الوزراء يرحلون والموظفون مستمرون". وبالتالي ستتيه المؤسسة التنفيذية في رمال هذين الشعارين.

وفي غياب الفعل الجماعي للدولة، فإن المرحلة التشريعية الحالية تشهد انشغال المؤسسات الدستورية أكثر بما أطلق عليه ميشيل فوكو "تدبير المشكل الذاتي للمؤسسات" وتوحيد الأهداف والبحث عن التنسيق والتعاون وترسيخ المؤسسة القوية والفاعل المركزي على أرض الواقع. ورغم الاحتجاجات الاجتماعية، فإن العقل المركزي للدولة في المغرب هو منشغل بشكل أساسي بترتيب البيت الداخلي، ويعتبر مسألة ترتيب البيت الداخلي هي الكفيلة بخلق الدولة القوية القادرة على الصمود في وجه التحدي الاجتماعي، هذا الانشغال يدفع إلى تأجيل المشاكل المرتبطة بحكامة المجتمع وحكامة الأشخاص والأشياء.

ورغم أن الرأي العام الوطني كان يتوقع أن تشهد الولاية التشريعية الثانية بعد دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، ما سبق وسماه الباحث ريفيز سنة 1998 بـ"الحكامة المتطورة"، التي تشترط بالأساس العمل في البداية على كيفية الفعل، قبل موضوع الفعل، إلا أن الانشغال بتدبير المشكل الذاتي يثبت أن التفاؤل المصاحب لدستور 2011 تعرض لنكسة كبيرة، ويؤكد صحة مقولة جون ليكا التي مفادها أن "موجات التحول الديمقراطي هي أكثر غدرا من أمواج البحر"، لأنها تنكسر بسهولة أكبر، كما أن الأمواج الخاصة بها هي أكثر قوة ولا يمكن توقعها ولا التنبؤ بها.