خالد غزال

يشهد لبنان كل يوم مزيداً من التفكك في مؤسساته السياسية والإدارية والعسكرية والقضائية... بحيث ينعدم الانتظام في عمل هذه المؤسسات، بعد أن حولها النظام الطائفي إلى مجموعة إقطاعات. لعل الأبرز في هذا المجال شبه التلاشي لموقع الدولة الذي يشكل المشترك بين اللبنانيين. نجم عن انفكاك الدولة وتفتتها، تحول القابضين على أمورها إلى مافيات تحتكر كل ما يتصل بهذا القطاع أو ذاك، وإلى مجموعة عصابات تمارس البلطجة على الناس، وتدخل في صراعات داخل مؤسساتها ذاتها. غيض من فيض الأمثلة على ما يحصل في البلد توحي بمسار متسارع من الانهيار لكل البنيان الذي قام ويقوم عليه.

نبدأ أولاً بمعضلة الكهرباء. هذه المعضلة تعود إلى نهاية الحرب الأهلية. شكلت الكهرباء دجاجة تبيض ذهباً، احتكر وزاراتها ممثلون للوصاية السورية التي كانت تضع العراقيل في وجه إصلاح هذا القطاع، فتستنزف الاعتمادات الموضوعة لها نهباً وسرقة. بعد زوال الوصاية، استلم التيار الوطني الحر هذه الوزارة، فسار على نهج الوصاية السورية. وعد بكهرباء 24 على 24 ساعة، فوصل البلد إلى عتمة من 24 ساعة. يرفض القائمون على هذا القطاع اليوم أي إصلاح جذري، لأن من شأن هذا الإصلاح أن يوقف النهب الممارس فيه. آخر الأدلة ما قدمته شركة «سيمنز» الألمانية من عرض لبناء معامل بكلفة أقل من كلفة الباخرة، وبفترة زمنية قصيرة، فرفض العرض بحجج واهية. إلى جانب هذه المافيا، هناك مافيا المولدات التي يغلب عليها منــــطق العصابات. يتحكم أصحاب المولدات في الأسعار وتقديم الكهرباء، ويتصرفون كدولة قائمة بذاتها، تحميهم طبقة سياسية فاسدة، وتشاركهم الأرباح.

قطاع خدماتي آخر يقع تحت سلطة مافيا تديره، هو قطاع مياه الشرب. منذ بداية فصل الصيف، فوجئ اللبنانيون بانقطاع مديد للمياه يمتد لأسبوع وأحياناً أكثر. جرت تدقيقات عن أسباب هذا الانقطاع، ليتبين أن أصحاب الصهاريج التي تنقل المياه إلى البيوت، عقدوا صفقة مع موظفي المياه المسؤولين، يدفعون لهم رواتب شهرية مقابل قطع المياه، حتى يجبر المواطن على شراء المياه من الصهاريج.

أما الفساد والرشوة فقد باتا الخبز اليومي لأي مواطن يريد إنجاز معاملاته. لمن لا يعرف الإدارة اللبنانية، فإن الرشوة لا تقتصر على الموظف، فهذا الموظف جزء من شبكة تمتد من رأس الهرم في الوزارة، وتسير نزولاً نحو المدير العام ورئيس المصلحة أو الدائرة، بما يجعل الكل شريكاً في الرشوة. ما يجعل أي شكوى تقدم ضد هذا الموظف من دون جدوى، حيث لا أحد يحاسب أحداً.

في الأيام الأخيرة، شهد مطار بيروت الدولي حوادث تظهر حال الانهيار في مؤسسات أمنية كان يعتقد لفترة أنها خارج صراعات المافيات والعصابات. اختلف رئيسا جهازي الأمن على الصلاحيات، فعبرا عن خلافهما عنفاً وتضارباً أمام أعين الركاب المسافرين. لكن الأسوأ أن هذا الصراع ترجمه كل واحد بتدخلات خارج صلاحياته، ما عطل عمل المطار لفترة، وجعل الركاب المسافرين يدفعون ثمن صراعات الأجهزة. هل يمكن وصف ما حصل في المطار بأقل من كونه صراع عصابات، في وقت المطلوب من هذه الأجهزة تأمين الأمن وخدمة المسافرين.

اما ملفات النفايات والتلوث، وعلى رغم الأضرار التي ألحقتها بالبلد، ما جعله يقع في طليعة البلدان العربية التي سجلت أعلى نسب من الإصابات بالسرطان، هذه المشكلة، ومعها تلوث الأنهر والوديان، لا تزال خاضعة للمساومات على نسبة ما سيناله كل طرف في سياق الصفقات التي ستعقد لإيجاد حلول ولو جزئية لهذه المعضلة. نحن هنا أمام نفايات سياسية في الدرجة الأولى، تتكون من هذه الطبقة المتحكمة بالبلاد والعباد.

وأما ملفات التهريب من الجمارك وإدخال البضائع الفاسدة والمنتهية مدتها، فهي نهر جار تتحكم فيه مافيات من الطبقة السياسية ومن ممثلي الطوائف، بما يجعل كل تصد لهذا المهرّب أو ذاك، بمثابة المس بالطائفة وحرمتها. وينطلق التحريض المذهبي الكفيل بإجهاض وضع أي حد لهذا التلاعب بموارد الدولة.

وأخيراً وليس آخراً، هناك التلاعب في ملف الدواء. من المعروف أن شبكات وعصابات موجودة في هذا القطاع، عمدت وتعمد إلى سرقة أدوية غالية الثمن، خصوصاً أدوية السرطان، تبيعها في السوق السوداء، وتعطي المواطن أدوية قليلة الفاعلية. وأخيراً، ولأن الصفقة لم تكتمل بين المعنيين، توقف استيراد أدوية السرطان، بما سيحرم المواطن من تأمين العلاج.

تلك أمثلة قليلة، يمكن ملء صفحات في تغطية الفضائح ومرتكبيها. يغشك الصراع الكلامي والتحريض من هنا وهناك بين الطبقة السياسية، فالكل يعرف أنه عند تقاسم الموارد والصفقات، يجلسون بكل محبة ولا يبدو على أحدهم أي أمارة من أمارات التناقض والخلاف.

وسط كل هذا الواقع المشين، يستمر الصراع على الحصص، فيمتنع تشكيل الحكومة وقد مضى على التكليف حوالى خمسة أشهر. يصرخ الجميع أن الوضع الاقتصادي على شفير الانهيار، وأن الاهتراء في البلد إلى مزيد من تأكل ما تبقى من مؤسسات. لكن لا حياة لمن تنادي.

* كاتب لبناني
&