&ليون برخو

&عصرنا عصر العولمة. والعولمة هبطت علينا بوجود منظمة التجارة الدولية أو من دونها. وستبقى معنا، لا بل تحتلنا حتى ولو صاح كل رئيس دولة "الوطن أولا". وعولمة الإعلام كانت واقعا محسوسا قبل أن يتمكن البشر من التوصل إلى اختراعات قللت المسافات، وأزالت أو خففت القيود والعوائق التي كانت تحد من انسياب التجارة والبشر والأفكار. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، أغلب العالم واقع تحت تأثير الإعلام الأمريكي. والتأثير يأخذ أبعادا شتى، شرحها يتطلب أسفارا، إلا أن السفر الذي في رأيي له وقع كبير على حياتنا، ينحصر في أساليب الكتابة واستخدام المصادر لجمع المعلومات. لنأخذ الصحافة. الصحافة بشكلها الحالي، شأنها شأن كثير من المخترعات ذات التأثير المباشر في حياتنا، أمريكية المنشأ، جرت عولمتها كما حدث ويحدث مع كثير من الشركات والنشاطات الصناعية والتجارية. أغلب الكتب المنهجية التي نفرضها على طلبة أقسام الإعلام أيضا أمريكية المنشأ، من مؤلفين ودور نشر. انظر إلى الصحافة الورقية أو الرقمية، التي هي جوهر ولب الإعلام، المرئي والمسموع، وسترى المحاولات الحثيثة التي يبذلها الصحافيون والمحررون وغيرهما من العاملين في حقل الإعلام، لتقليد الإعلام في أمريكا.

وانظر كيف أن التغطية الصحافية للأحداث تكاد تكون متشابهة في أغلب دول العالم. القنوات الإخبارية التي تقوم بتغطية الأحداث على مدار الساعة اختراع أمريكي، وصار تملك قناة إخبارية جزءا من المشروع الوطني لكل دولة تقريبا. هذا بقدر تعلق الأمر بانتشار الصحافة التي تتبنى ما هو متوافر في أمريكا من حيث التبويب والتصميم وغرف الأخبار وهرمية التحرير والانسياق صوب تكتل أو إيديولوجية سياسية محددة والتمويل وغيرها. ولكن عولمة التصاميم والأشكال في الصحافة وأغلب المضامير الإعلامية الأخرى ليس ذا أثر كبير. ما أثر ويؤثر عالميا "على مستوى العالم، أي العولمة" هو المتن؛ أي المواضيع والأحداث التي تنقلها لنا الصحافة، وطريقة نقلها "كتابتها من حيث الأطر الخطابية". عند تحليل المتن "الخطاب" الذي تتبناه الصحف مثلا نرى أن أغلب الأطر التي تعكس الأحداث وشخوصها تركز على النخب. وهذا لم يعد خاصية أمريكية.

إنه الأسلوب الرائج الذي تتبناه أغلب الصحف. ولن نجافي الحقيقة إن قلنا إن الإعلام - والصحافة على وجه الخصوص - ينتابه الغرور إلى درجة قد يفقد فيها صوابه. وهذا الغرور يتعزز حسب سطوة وسلطة وثروة الذين يتبنون الإعلام أو يتبناهم الإعلام. الأغنياء وأصحاب الثروة يشترون الصحف ووسائل الإعلام الأخرى تقريبا بالطريقة التي يشتري بها هؤلاء الأندية الرياضية. وهذا يحدث في الصحافة الأمريكية - "واشنطن بوست" يملكها صاحب "أمازون"، ثاني شركة في العالم من حيث القيمة السوقية. و"فوكس" صاحبها روبرت مردوخ، الذي يتربع على واحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في العالم. حال "فوكس" و"واشنطن بوست" يعكس حال الإعلام في أمريكا، ويلقي بظلاله على حال الإعلام في العالم في عولمة ربما لم نشهد لها مثيلا. صاحب شركة أمازون لا يطيق تحمل الرئيس دونالد ترمب. "واشنطن بوست" لها قصب السبق في تأليب الرأي العام على ترمب. صاحب "فوكس" يرى في ترمب منقذا وملهما. "فوكس" لا تكل ولا تمل الدفاع عن ترمب. هذا التحزب ظاهرة شائعة في أغلب الدول التي تقول إنها ديمقراطية وتتباهى بحرية الصحافة؛ حيث تتبنى الصحف نخبة ضد أخرى أو تيارا ضد آخر. في الدول التي تغيب فيها الديمقراطية يسود تيار واحد. رغم ذلك، الأمر سيان. تقليد أي من التيارين في أمريكا - مع أو ضد ترمب - معناه أنك مع نخبة ضد أخرى. ومن ثم حتى في هذه الدول، النخبة والأثرياء هم المالكون، ويزداد تبختر الإعلام بزيادة ثروة وسطوة أصحاب نعمته.

وكي تدفع بالأجندة "وتبني سياسة نخبة محددة ضد أخرى هو أجندة" إلى الأمام وتعززها، لا ضير إن وضعت بعض المعايير الأخلاقية والمهنية جانبا، وقدمت معلومات خطيرة قد تهز العالم، ولكن مصادرها مجهولة الهوية. استنادا إلى مصادر مجهولة الهوية يستطيع الإعلام تمرير أكاذيب وادعاءات لم ينزل بها الله من سلطان. أظن كلنا نتذكر قضية العراق وأسلحة الدمار الشامل. كي تصل إلى الهدف، تلجأ الصحافة في أمريكا اليوم إلى مصادر مجهولة الهوية، ومنها انتقلت عدوى هذا الأسلوب الصحافي إلى أغلب الوسائل الإعلامية في العالم. ووصل الأمر إلى أن يكون المتن، الذي ورد في واحد من أكثر الكتب تأثيرا، ومؤلفه واحد من أشهر الصحافيين في العالم، ألا وهو بوب ودورد يستند في مجمله إلى مصادر مجهولة الهوية. كل مصادر هذا الكتاب الذي صدر أخيرا ومن بدايته حتى نهايته غير معروفة. بوب ودورد محسوب على "واشنطن بوست". وأخيرا وليس آخرا، خرجت علينا "نيويورك تايمز" بمقال نسبته إلى مصدر مجهول في إدارة دونالد ترمب، وكان له وقع الصاعقة. وصرنا اليوم نمر بعصر عولمة معلومات وإعلام ينقل لنا محتوى واقتباسا جله لا نعرف إلى من نسنده، وما هوية قائله أو منصبه. إنه عصر عولمة المصادر المجهولة الهوية.

&