& فهد سليمان الشقيران

&

يئن العالم الإسلامي من رزح الخطاب المتطرف؛ ولم يقيض لهذه الأمة بأعدادها المليارية من يدعم تجديد الخطاب الديني بشكلٍ عصريٍ متوازنٍ يحفظ للمسلمين أسسهم وثوابتهم وينزع عنهم الأغلال التي وضعت عليهم. ومنذ زمن بعيد آمنتُ أن الدولة القادرة على قيادة هذا المشروع هي المملكة العربية السعودية، وذلك لأسباب أساسية، فهي تمثل الدولة الإسلامية والحضارية معاً، وهي التي تحتضن الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وكذلك الرخاء الذي تنعم فيه، فهي أقدر على التركيز من أي دولةٍ إسلاميةٍ أخرى، ثم إنها أكثر البلدان اكتواءً بنار التطرف والعنف، وقد لفت نظري مراراً الخطاب الشرعي الرصين الذي يقدمه أمين رابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد العيسى، وآخر ما طالب به: «إنشاء حملة سلام مكونة من الأديان الثلاثة في مدينة القدس أورشليم، وذلك من شأنها أن تعزز طريق السلام عبر إيجاد توافق بين الأديان»، وذلك ضمن مؤتمر أميركا والعالم الإسلامي، وهذه دعوة يجب أن تحول إلى برنامج عمل لإنقاذ البشرية من خطابات التطرف والكراهية عند الجميع، فهي كراهية موجودة لدى المجانين من شتى أتباع الأديان في العالم وليست مقتصرةً على المسلمين.


إن العمل على التفاهم بين الأديان يتطلب من الجميع خطابات غير عدوانية، تتناول الآخر المختلف بطريقةٍ مدنيةٍ وإنسانيةٍ، هذه هي النتيجة «الذروة» التي وصلت إليها العقول البشرية بعد حروب طاحنة دينية وعرقية وإمبراطورية راح ضحيتها الملايين من البشر، وآخرها ما حدث من حربٍ مسعورةٍ في الحرب العالمية الثانية، والحروب الأهلية مستمرة بين الطوائف الصغيرة داخل المجال الإسلامي كما يجري في سوريا والعراق وليبيا وأماكن أخرى في المنطقة. والتاريخ البشري زاخر بنماذج التعايش بين أصحاب الأديان التوحيدية.
في عام 2006 أشرف البروفسور محمد أركون على مشروعٍ ضخم بعنوان: «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا» (منشورات ألبان ميشال) وفيه قصد: «تسليط الضوء على المساحات المضيئة بتاريخ منطقة الحوض الأبيض المتوسط من كلا جانبيها الشمالي والجنوبي أو الغربي والشرقي، أي من كلتا الضفتين. ومعلوم أن كتابة التاريخ من وجهة نظرٍ طائفية أو قومية هي التي أدت إلى ترسخ هذه النظرة الآيديولوجية التي ترفع من شأن الذات وتحط من شأن الآخرين، إن لم تكن تحتقرهم وتنبذهم. إن كتابة التاريخ على الطريقة الأسطورية الآيديولوجية السابقة تهدف إلى تأييد تلك النظرة التبجيلية القديمة لكل فئةٍ أو ذاكرةٍ جماعيةٍ، أو طائفة دينية قدّست نفسها بنفسها ونجّست سواها داخل إطار السياج الدوغمائي المغلق لتصوراتها التمجيدية والتعظيمية لذاتها».


ثم يضرب مثلاً بتجربة ريمون لول في القرن الثالث عشر: «حيث كانت مدينتا ماجورقة وبيجايا في إسبانيا والجزائر الواقعتان في المجالين المسيحي والإسلامي تنتميان إلى سلالتين متحررتين من هيمنة العواصم السلطوية الكبرى على القارة، وكانتا تمثلان مركزين من مراكز المعرفة والحياة الاقتصادية في المنطقة الغربية من حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان ريمون لول ابن أحد المستوطنين الكاتلانيين، فقد ولد في بالما الجورقية بعد فتحها عام 1230 من قبل المسلمين، ولهذا أصبح النموذج الأعلى للعلم والمناقشة المتعددة للثقافات والأديان واللغات. لقد أصبح نقطة تقاطع بين المسيحية والإسلام، واللغة اللاتينية، واللغة العربية، والثقافة الأوروبية والثقافة العربية الإسلامية، من هنا أهميته وخصوبة تجربته المتشعّبة».


وبتصفّح تاريخ المسلمين عند الطبري وابن كثير و«تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، وسير التحولات والتطورات للدولة الإسلامية نعثر أيضاً على أنماط مضيئة لتعايش المسلمين مع الأديان الأخرى، وذلك تبعاً للظرف السياسي، وثقافة كل خليفة، ومسار كل مرحلة، وعليه فإن التاريخ حوى نماذج تفاهم متقطّعة وطارئة في الشرق والغرب، ولكنها غير مؤسسة وإنما مترامية مفككة ليس لها آصرة فكرية فلسفية تجعل التفاهم له أرضية مؤسسة وصلبة يستند إليها لفتح مشاريع حوار وفهم ودراسة وتحاور بين رموز الأديان وأتباعها.
الدور الذي تقوم به الرابطة ممثلةً بالأمين العام يمتاز بنوعية الخطاب المطروح، فهو خطاب خارج كل الجلبة الحزبية، أو الردح التاريخي، أو التحجّر المفهومي، بل له طابع شرعي رصين مع الاهتمام بالصبغة المدنية، والقدرة على فهم المتلقين المختلفين في أنحاء العالم، والتعويل الآن على العقلاء فقط في هذا العالم المليء بهوس القتل واحتراف الكراهية والتفنن بالعنف، وإدمان الإرهاب، والله المستعان.