& توفيق السيف

&زميلي الأفغاني كان مندهشاً جداً من حديث أستاذ الفلسفة عن جدّه الذي هرب إلى أستراليا بعدما أدين بسرقة عربات البريد. مال الزميل على كتفي وسألني بصوت خافت: هل يعني جدّه فعلاً؟
كان الأستاذ يقصّ علينا طرائف من حياة جدّه، كما لو أنه شخص غريب لا يعرفه. بدا أنني وزميلي كنا الطالبين الوحيدين في الصف اللذين اهتما بالجانب الشخصي في القصة.&
هذا ما لاحظه الأستاذ أيضاً، فانتهز فرصة الغداء ليخبرنا بأنه لا يرى عيباً في بيان أن السارق المشهور هو جده. المسألة ببساطة أن هذه معلومات مثبتة يعرفها كل قارئ لتاريخ البريد أو تاريخ القضاء في بريطانيا.
هذه المناقشة القصيرة خلّفت انطباعاً عميقاً في نفسي، تركز حول رؤيتي للماضي وأهله وما جرى فيه. وكنت قبلئذ أميل لتجاهل التفاصيل البغيضة التي أقرأها أحياناً عن ماضي المسلمين. لكن تلك المناقشة لفتت انتباهي إلى دور التاريخ في تشكيل هوية الفرد، وكيفية تعاملنا معه: هل ننظر إليه بوصفه سجلاً لتجربة جرت في الواقع، أم هو مجرد صورة ذهنية متخيلة عما جرى فعلاً، أي - في حقيقة الأمر - صورة متخيلة عن الذات السابقة (السلف) التي تشكل مولداً للذات الحاضرة (الخلف)؟


كل أمم الأرض تهتم بتاريخها، لأن صورة الماضي تضيف عمقاً لصورة الحاضر، أو تمثل أداة مقارنة بين حوادث الأمس واليوم. لكن يظهر أننا على المستوى العملي نتعامل مع التاريخ، حتى القديم جداً منه، كما لو أنه الصانع الحقيقي لحاضرنا.
دعنا نضرب مثلاً بالجدل المزمن حول اعتبار النَسَب عنصراً في تشكيل معنى التكافؤ، أو في تحديد قيمة الأشخاص وأدوارهم... فالذين يرونه على هذا النحو، يتبنون - ضمناً على الأقل - مبدأ أن حاضر البشر محكوم بما فعله أجدادهم في غابر الزمان. بمعنى أن الإنسان ليس سيداً لحياته ولا صانعاً لأقداره، بل بقية مما ترك السابقون، أو مجرد ظل لهم.
للمناسبة، فهذا الاعتقاد ليس مقصوراً على العرب؛ في عام 1975 نشر عالم الأحياء الأميركي إدوارد ويلسون كتاباً بعنوان «البيولوجيا الاجتماعية: التوليفة الجديدة» يدعو لنظرية جديدة، تجمع مستخلصاً من علم الوراثة الذي ينسب إلى غريغور ميندل، ونظرية التطور التي أسسها تشارلز داروين.


افترض ويلسون أن بعض الصفات السلوكية للكائن الحي، قد ترجع لعوامل جينية، خلافاً للتوافق العام على نسبتها لتأثير البيئة والتربية.
أثار الكتاب جدلاً واسعاً بين علماء الاجتماع والبيولوجيا على السواء، وحصل بسبب هذا الجدل على رواج استثنائي؛ ففي عام 2014 نشرت طبعته الرابعة عشرة، وهو أمر نادر الحدوث في الكتب العلمية.
لا يجزم ويلسون بدور العوامل الجينية في تشكيل هوية الإنسان، فالاختبارات المثبتة تتعلق بأنواع محددة من النباتات والحيوانات فقط. لكنه يركز على أن انقراض بعض سلالات البشر القديمة، وكذا سلالات الحيوان، يسمح بالنظر إلى الإطار التطوري ذاته؛ أي القابلية للبقاء، على أنه أساس محتمل لبحث فرضية انتقال الصفات السلوكية بالوراثة.
أشير أيضاً إلى أن فقهاء المسلمين الذين عارضوا مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، اعتمدوا تبريراً مماثلاً لفرضية العوامل الجينية. كما استعمله تيار ظهر في الولايات المتحدة وأوروبا بين 1912 و1931 أساساً لدعوته إلى تصفية العرق «الوطني الأصيل» من لوثات المهاجرين.
زبدة القول إن الجدل حول تأثير التاريخ، يدور حول سؤال: هل أنا صانع حياتي وأقداري، أم أنا مجرد بقية من ظلال أجدادي الماضين؟