سليم مصطفى بودبوس

&&منذ المنعرج التاريخي في تونس سنة 2011، لم تتوقّف الإنجازات الدستورية (دستور2014) والتشريعيّة في هذا البلد الذي استطاع أن يخرج بأخفّ الأضرار ممّا لحق المنطقة العربية، وربّما ببعض المكتسبات ولا سيّما في المجال الحقوقيّ والتشريعيّ. وفي هذا الباب صادق مجلس نوّاب الشعب في تونس مؤخّرا على قانون تجريم العنصريّة في سابقة هي الأولى في العالم العربيّ. فما دوافع إقرار هذا القانون؟ وما دلالاته في سياقه التاريخيّ والسياسيّ بتونس؟
انتعشت الحياة الجَمعَوية في تونس في العقد الأخير، وتأسّست العديد من الهيئات والمراصد الحقوقيّة ومراكز الدراسات العلميّة التي تعنى بالشأن الحقوقيّ وترفد العمل التشريعيّ بالمجلس التأسيسيّ ثمّ بمجلس نواب الشعب، كما أخذ الإعلام هامشا من الحرية جعله يتناول العديد من المواضيع والقضايا التي طالما وقع التضييق على من أراد إثارتها في نوع من التعمية والهروب إلى الأمام في معالجة قضايا صميميّة، من ذلك قضية السلوك العنصريّ في تونس ولا سيما إزاء المواطنين من أصحاب البشرة السوداء أو الوافدين من إفريقيا جنوب الصحراء.
وليس غريبا أو جديدا عن تونس أن يصادق برلمانها على هكذا قانون؛ فقد كان لها قصب السبق عربيا وإسلاميا في إلغاء الرق والعبودية؛ فقد أصدر أحمد باي الأول سنة1841 أمرا يقضي بمنع الاتّجار في الرقيق وبيعهم في الأسواق، ثم أصدر أمرا عام 1842 يعتبر من يولد بالتراب التونسي حرّا ولا يُباع ولا يُشتَرى. وفي سنة 1846أصدر قراره بمنع العبودية والرق نهائيا. وتونس أيضا من أوائل الدول التي وقّعت بعد استقلالها اتفاقية ضد التمييز العنصريّ بالأمم المتحدة عام 1965، وهي أيضا صاحبة مجلّة الأحوال الشخصية التي دشنت عهدا مختلفا في التعاطي مع الأسرة وحقوق المرأة...


ولقد نشأت فكرة مشروع القانون مع المجتمع المدني حيث نشطت جمعية «منامتي» المناهضة للعنصرية، وطالبت بإقرار قانون يجّرم العنصرية في تونس، وقد عُرِضت على مجلس نواب الشعب منذ 2016 ثمّ تبنّتها في لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية داخل المجلس فكانت المسؤولة عن مناقشة هذه المبادرة القانونية منذ نيسان/‏أبريل 2018، ويعتبر هذا القانون من أسرع القوانين التي أُقِرّت في البرلمان التونسي بالأغلبية الواضحة حيث صوّت لصالحه 125 نائبا، مقابل صوت واحد ضده، في حين امتنع خمسة نواب عن التصويت. وبذلك جنى المجتمع المدني والمشرِّع التونسيّ ثمرة تعاونهما.
ويقصد بالتمييز العنصري وفق هذا القانون «كلّ تفرقة أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللّون أو الأصل القوميّ أو النّسب أو غيره من أشكال التّمييز العنصريّ». ويحدد القانون الجديد عقوبات للإدلاء بكلام عنصري، تتراوح بين شهر وسنة من السجن وغرامة مالية تصل إلى 300 يورو.
كما يعاقب بالسجن من عام إلى ثلاثة أعوام وبغرامة مالية كل من يحرض على العنف والكراهية والتفرقة والتمييز العنصري، وكل من ينشر أفكارا قائمة على التمييز العنصري أو كذلك «تكوين مجموعة أو تنظيم يؤيد بصفة واضحة ومتكررة التمييز العنصري أو الانتماء إليه أو المشاركة فيه.»


ولا يفهم من طرح هذا القانون أنّ المجتمع التونسي يمكن وصمه بالعنصرية، وإنّما هو كغيره من المجتمعات العربية الإسلامية يختزن في مخياله الثقافي الشعبيّ «تصوّرات عنصريّة» إزاء أصحاب البشرة السوداء؛ فعلى سبيل الاستهزاء ينادي الأطفال الصغار أصدقاءهم من ذوي البشرة السوداء بـ (يا وصيف، يا كحلوش /‏ أكحل البشرة...)، وقلّما تجد زواجا بين التونسيين المختلفين في لون البشرة، بل يعارض أصحاب البشرة البيضاء هذا الزواج وبشدة، كما لا تزال بعض الأسر تتعمّد في الأفراح وضْعَ امرأة سمراء البشرة في الصفوف الأمامية كنوع من التميمة لكسر الحسد والعين. وعلى المستوى الإعلام البصري قلّما تجد مقدّم أخبار أو منشط برنامج أسمر البشرة... كما لحق بعض الطلبة الأفارقة الأذى بسبب سلوكات عنصرية تبقى محسوبة على أصحابها فقط...
والحقيقة أنّه لا توجد إحصاءات رسمية في تونس بعدد المواطنين من ذوي البشرة السوداء، ولا يوجد إحصاء دقيق لنسب تواجدهم بالهيئات والوزارات والمناصب السامية... كما لا يوجد من رفع شكوى ضدّ الدولة لتمييزه بسبب لون بشرته؛ فالكفاءة غالبا ما تكون هي المعيار المحدد... ولكن تظلّ الحاجة إلى هذا القانون أكيدة كي تلعب الدولة دورها في ردع المخالفين بمقتضى القانون، مع ضرورة أن يلعب التعليم والإعلام والمنابر الدينية والثقافية والفنية الدور المنوط بهم للقضاء على أشكال التمييز العنصري ومظاهره حماية لكرامة الذات البشرية وتحقيقا للمساواة بين الأفراد
وهكذا، تظل تونس دولة سبّاقة في مجال حقوق الإنسان؛ فقد سبقت شقيقاتها العربيّة في إلغاء العبودية والرق منذ 170 سنة، وها هي تجرّم كلّ فعل أو قول عنصريّ لتنتقل تونس إلى مرحلة جديدة من الوعي بضرورة استئصال العنصريّة لا بالترغيب والتوعية والتعليم فقط، وإنّما أيضا بالترهيب والردع عبر تطبيق القانون على المخالفين حتى يكون كل من اقترف سلوكا عنصريا عبرةً لمن يعتبر.