&أحمد الحناكي& &

قبل أكثر من 35 عاماً توجّه آلاف الطلاب السعوديين إلى أميركا للدراسة، كنت أعرف من هؤلاء العشرات ما بين صديق أو زميل أو قريب، منهم من نجح ومنهم من لم يكمل دراسته ومنهم من تفوق، في حين لم تتسن لي فرصة الذهاب كون أخي الأكبر في أمريكا ملتحقاً بدورة طويلة تخص عمله، وبالتالي لا مناص لي من الإقامة مع والدتي وجدتي رحمها الله في ذلك الوقت.


قبلها كنا نحلم بأميركا ليل نهار وننتظر فرصة الدراسة والإقامة في بلد يخيل لنا أنه «جنة الله في دنياه»، وفعلا عاد الأصدقاء لاحقا ومنهم من تغير جذريا وأغلبية منهم تبلّلت مفاهيمهم الفكرية الصحراوية فأصبحت أكثر ليونة وانسيابا، وكان الطابع العام أن الناس هناك منظمون ويحرصون على المهنية والقوانين والقيم، المقصود بالقيم هي الديموقراطية التي اكتسبوها بعد عقود من الصراعات والعنصريات والطبقيات وهلم جرا.

عندما حدثت القضية المتعلقة بجمال خاشقجي تحدث أكثر من شخص بمواقع التواصل، سواء بالنقل عن أعضاء بمجلس الشيوخ الأميركي أم سفراء سابقين أم إعلاميين، عن أن أميركا لن تصمت، والسبب أنهم قوم يحرصون على القيم الأميركية!

للتوضيح، أولاً فأنا كإنسان قبل أن أكون كاتبا صحافيا ضد ما حصل للمرحوم خاشقجي وليس له مبرر إطلاقاً ومن العدالة أن يلقى المجرمون جزائهم، غير أن هذا شيء وما يتحدث عنه الإعلام الأميركي والغربي وسياسيوهم شيء آخر مختلف تماماً.

لا يخالجني شك في أن الشعب الأميركي لديه قيم ومبادئ مثله مثل أي شعب آخر كذلك، ولكن لا يخالجني الشك أيضا في أن الساسة الأميركان ليسوا كذلك، مثلهم مثل أي سياسيين آخرين، ولنقل الأغلبية، غير أن الفارق بين الأميركيين والآخرين، هو أن الأميركان يملكون القوة التي تتيح لهم ممارسة كل ما يصنف إرهاباً أو غزواً أو احتلالاً أو ابتزازاً أو مساندة لأنظمة أخرى مهما كانت نوعيتها ديموقراطية أو استبدادية لكنها تصب في مصلحة أميركا، فعن أي قيم تتكلم يا هذا؟!

شاهدت فيلماً أميركياً مأخوذاً عن قصة حقيقية اسمه «رينديشن»، وترجمته «التسليم»، قبضوا فيه أصحاب «القيم الأميركية» على شاب من أصول مصرية في مقدونيا (في الحقيقة ألماني من أصول مصرية) لمجرد شك بسيط في أن له علاقة بعمل إرهابي، ومنذ البداية نقلوه لبلد آخر كي يمارسوا معه التعذيب بعيدا عن القضاء الأميركي، كما يعملون الآن في غوانتانامو ومن قبل في سجن أبو غريب العراقي.

وبحسب القصة الحقيقية مورس مع المسكين أبشع أنواع التعذيب من كل ما يخطر على بال القارئ، لدرجة أنه اعترف بما يريدونه وهو بريء لهول التعذيب، اتضحت لاحقاً براءته وأنّ أصحاب القيم الأميركية أنفسهم من هول ما ارتكبوه ورموه في ألبانيا -بحسب القصة الحقيقية- عاريا من دون أي اعتذار، وقبض عليه الألبان لاعتقادهم أنه إرهابي ثم أطلقوه لاحقا، وعندما أراد أن يدّعي على «أصحاب القيم» منعوه ومحاميه الألماني من دخول أميركا، ثم في عام 2007 حكمت محكمة ألمانية بإلقاء القبض على 13 شخصاً اشتركوا في اختطافه (طبعا حكم في مهب الريح)، بينما تمت ترقية المسؤولة عن العملية في الاستخبارات الأميركية إلى مركز رفيع تقديراً على ما يبدو عن ما تتميز به من قيم.

الإعلام الأميركي ويا للأسى سقط في وحل الانحطاط السياسي عندما تبنّى الحملة على المملكة وبالغ في الخصومة من دون إثباتات واضحة، ناهيك أن هذا الإعلام ومعه السياسيون الغربيون والأميركيون لم تنتفض ضمائرهم ولو لوهلة عندما دأبت قوى الاحتلال في فلسطين وآخرها أمس في قصف غزة وغير غزة بكل غطرسة وغرور واستبداد، بل إنني أسأل سؤالاً واضحاً وصريحاً: كيف يتسنّى لكل هؤلاء المتشدقين بأن ينسوا أو يتناسوا أن الدولة المحتلة ومنذ عام 1967 تعاقب كل انتحاري من الفلسطينيين بأن تدمر بيت عائلته، راكلين بعرض الحائط كل القيم الإنسانية، عفواً أم هي الأميركية؟ حقا صدق الممثل الكويتي الذي لا أتذكر اسمه عندما قال متهكما: هل كيف؟!