ياسين أحمد&

ثيران في مستودع خزف.. أصدق وصف يمكن أن يُنعت به من يحاولون التحريض على المملكة العربية السعودية، على خلفية حادثة وفاة المواطن السعودي جمال خاشقجي في مقر القنصلية السعودية في إسطنبول، مطلع أكتوبر الجاري. وهم ليسوا أفراداً فحسب، بل مؤسسات وأجهزة دول يهمها أن تنمحي السعودية من الوجود. وصدق من وصف الحملة الراهنة على السعودية، وتشويه سمعتها، والإساءة لقياداتها، وأنظمتها، وإنسانها، بأنها غير مسبوقة. وإن يكن ذلك غير صحيح من حيث الدقة؛ إذ إن السعودية ظلت تتعرض لمثل هذه الحملات منذ عقود، خصوصاً داخل الدول المتحالفة معها. غير أن هذه الحملة الراهنة فاقت سابقاتها لجهة اصطفاف من يشنونها خلفها في توقيت واحد، ومكان يكاد يكون واحداً.

أفضل الطرق إلى المستقبل

ولمحبي السعودية أن يتساءلوا: هل ستنجو السعودية من براثن هؤلاء الأعداء الذين تزداد عداوتهم كل يوم تشرق شمسه على السعودية وهي قوية برجالها، واقتصادها، وثرواتها المعدنية والنفطية، وبخياراتها في البحث عن اعتماد على الذات؟ والإجابة بكل بساطة: نعم. لأنها دولة حق، وليست دولة انتهاكات، كما يزعم مناهضوها. ولأنها تثمن قيمة إنسانها في الداخل والخارج. ولأنها تبحث عن أفضل الطرق إلى المستقبل، وهو مستقبل رسمت ملامحه العولمة، والتكنولوجيا العالية المتقدمة، واقتصادات قوية تتعاون في ما بينها على تحرير قيود التجارة، وتقليص البيروقراطية.

الآن، بعد مرور أربعة أسابيع على اندلاع حادثة وفاة خاشقجي، بدأت الحملة الإعلامية الظالمة تذبل. ويبدو واضحاً لمن يراقب الأحداث من لندن أنها كانت منسقة تنسيقاً جيداً من قطر والجماعات التابعة لها التي تملك قنوات فضائية في تركيا ولندن بوجه الخصوص. صحيح أن الأزمة في أسبوعيها الأولين أضحت بنداً رئيسياً في النشرات التلفزيونية. وأفردت لها الصحف المعادية للسعودية، كالإندبندنت والغارديان البريطانيتين، وواشنطن بوست الأمريكية التي تبنت الراحل خاشقجي باعتباره أحد كُتّاب الرأي على صفحاتها؛ عناوين ضخمة، وخصصت لمتابعتها حيزاً كبيراً، واسترزقت من التسريبات التي يستحيل التحقق من دقتها، أو معرفة هوية مصادرها؛ غير أن الفضائيات المحترمة الأخرى واصلت تغطيتها الإخبارية بمنتهى المهنية، معتبرة أن تطورات الأزمة لا تستحق أن توأد بسببها تغطية مجريات الأحداث المحلية والعالمية الأخرى. وباستثناء مجلة «ذا سبيكتاتور» البريطانية اليمينية، لم تخصص أية مجلة كبرى غلافاً للحملة على السعودية. وانشغلت هذه المجلات ذات القاعدة العريضة بأزمات أكبر ماثلة، في صدارتها قضية تعثر المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي في شأن التوصل إلى صفقة يتم بموجبها خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن الواضح أن كُتّاب الافتتاحيات في بعض تلك النوافذ الإعلامية أجمعوا على أن أزمة مقتل خاشقجي لا تتعدى كونها جريمة قتل، حتى وإن تورط فيها أحد الأجهزة الحكومية. وهو ما أعلنته السعودية في بيان رسمي، وأكدت أن تحقيقاً جنائياً يجري تحت إشراف النيابة العامة، وأن الجناة سيعاقبون، وأن نتائج التحقيق ستُعلن للعالم أجمع، وأنه لا توجد أية جهة عليا خوّلت تنفيذ جريمة بهذه البشاعة.

غير أن الجهة الوحيدة التي كانت ولا تزال حريصة على الإيقاع بالسعودية، والتحريض عليها، وتمويل المنظمات اليسارية واليمينية الغربية لرفع وترديد شعارات تطالب بوقف مبيعات الأسلحة للمملكة، وهي قطر، لا تزال توظف أذرعها الإعلامية- خصوصاً قناة الجزيرة- لإبقاء جذوة الحملة على السعودية متّقدةً. فقد أنفقت ولا تزال تنفق ملايين الدولارات من أجل تغطية متواصلة بالأقمار الصناعية من أمام مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، حيث تحشد الوجوه نفسها من عرب وأتراك، للافتئات على المملكة، وتضخيم التسريبات الزائفة، ومزاعم المصادر المجهولة. ومن المفارقات أن بث «الجزيرة» باللغة الإنجليزية الذي يخضع للضوابط الأمريكية يتعاطى مع أزمة مقتل خاشقجي باعتبارها خبراً عادياً جديراً بالمتابعة، من دون المبالغة والتهويل اللذين تتسم بهما تغطية «الجزيرة» باللغة العربية!

وعلى رغم التغطية المكثفة من «الجزيرة»، وادعاء انفراداتها بتصريحات من «مصادر مطلعة في مكتب المدعي العام التركي»، فإن الصحافة الغربية لم تستشهد بأي من تلك التصريحات الكذوبة! وانتهت المسألة، بعد قرابة أربعة أسابيع، بأن خسر النظام القطري ملايين الدولارات من دون أن تنجح أبواقه في حمل الرأي العام الغربي على مقاطعة السعودية، وفرض عقوبات عليها، أو إحداث شرخ في علاقاتها مع الولايات المتحدة وتركيا.

جهات معلومة ونمط محدد

تتصف الحملات السابقة على السعودية بأنها كانت تندلع بشكل غير جماعي، كبيانات منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس واتش. فهي لا تتجاوز بياناً تصدره منظمة بعينها، وتتعامل معه الصحف ووكالات الأنباء باعتباره خبراً فحسب. وتتمحور تلك الحملات على قضايا محددة: حمل السعودية على وقف العمل بعقوبة الإعدام، والمطالبة بالإفراج عن محتجزين في قضايا أمنية. وبمرور الزمن اتسع نطاق تلك الحملات ليشمل قضايا تتعلق بالمجتمع السعودي: قيادة المرأة السيارة، الولاية على المرأة، وغير ذلك. وظل بعض تلك الحملات يقتصر على كيانات محددة في دول حليفة للسعودية، كناشطي الحزب الديموقراطي الأمريكي، وصحف ومجلات اليمين واليسار الليبراليين في الغرب إجمالاً، والمنظمات المناهضة للحروب التي أنشأت تكتلاً في بريطانيا للضغط على السعودية لإيقاف حملتها على عملاء إيران وحزب الله الإرهابي في اليمن.

ويمكن القول بوجه مجمل إن تلك الحملات ظلت تُشن على السعودية بشكل تقليدي، كلما أصدر القضاء الشرعي السعودي أحكاماً بالقتل أو السجن، حتى في القضايا الجنائية. وشيئاً فشيئاً بدأ العالم يدرك أن السعودية دولة لها نظام قضائي عريق، وأسس قانونية واضحة تُبنى عليها الأحكام القضائية، وفق آليات نظامية محددة، وأن السعودية لن تحيد عن تمسكها بالشرع الإسلامي. فهو دستورها الذي يتضمن أحكاماً نص عليها القرآن الكريم، وجاءت ببعضها سنة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فيما حددت قوانين وضعية تنظيم الآليات والأحكام الأخرى، كما يحدث في سائر البلدان. وبمرور الزمن، وتعاقب تلك الحملات والبيانات وجدت تلك المنظمات الحقوقية أنه ليست هناك حكومات مستعدةً لتعضيد مطالباتها بمعاقبة السعودية. لأنها غير منطقية أصلاً، فكيف تتم معاقبة دولة تتمتع بكامل سيادتها على تطبيق عقوبة تنص عليها قوانينها ودستورها؟! وكيف تتم معاقبة السعودية وحدها على تطبيق عقوبة الإعدام، في حين أنها تُطبّق في أكثر من 30 ولاية أمريكية وعشرات الدول الأجنبية؟

وظلت تلك الحملات تتواتر على مر العقود من دون أن يكون لها تأثير يذكر في العلاقات بين المملكة وحليفاتها الغربية. غير أن الحملة الضارية التي تتعرض لها السعودية منذ مطلع أكتوبر 2018 لا يمكن وصفها سوى بالقول إن الجهات التي تشنها رأت في حادثة وفاة خاشقجي الورقة الرابحة لضرب السعودية في مقتل. فصار هناك حديث، بل أحاديث عن عقوبات أمريكية. وأضحى سقف المطالب ضد السعودية يرتفع كلما أصدر برلمان أو ناطق باسم حكومة أوروبية بياناً يطالب بإيضاحات كاملة لملابسات الحادثة. وفي غمرة هذا الهياج المسعور بدأت ترتفع الأصوات التي تشترط تحميل مسؤولية الحادثة للقيادة السعودية، على الرغم من إيضاحات الجهات السعودية المختصة أن القيادة السعودية لم تصدر أمراً بالقتل، وأن القتل تم من دون علمها، ومن دون تفويض منها. لكن تلك الأصوات ومن يشايعونها لا يريدون أن يسمعوا إلا ما يتمنون سماعه. وظلت الفضائيات الإخبارية تقتات بتلك المطالب، وبما ينسج حولها من أكاذيب، وسيناريوهات غير حقيقية. وهو ما يؤكد أن تلك الفضائيات إذا لم تجد كل يوم خبراً يشغل نشراتها وبرامجها، فهي مستعدة لـ «خلق» خبر يقوم بذلك. لا يهم إن كان ذلك تلفيقاً منافياً لأبسط أخلاقيات المهنة الإعلامية، فالمنافسة بينها لا ترحم، والسوق الإعلانية لا ترحم، والرعاة والجهات الداعمة مالياً وسياسياً لا ترحم! أما الأخلاق والمهنية فهما في المقعد الخلفي. المهم أن تحقق تلك القنوات رغبات من ينفقون عليها. وهؤلاء مستعدون للإنفاق على الإرهابيين والجماعات المنبوذة بكل سخاء وبلا حدود. ومستعدون طبعاً لتمويل «الجزيرة» بأذرعها الاخطبوطية ما دام مستشاروهم يؤكدون لهم أنها ستحقق أهدافهم؛ إن عاجلاً أو آجلاً!