&عبلة مرشد& &

يذكر في اللغة «دق بينهم إسفينا» أي فرّق بينهم عن طريق الوشاية، ويعرف الإسفين لغة بأنه: حديدة ثخينة على شكل وتد غليظ الرأس مستدق الطرف، يستعمل لشق أو قلع الخشب، ويقال: السفينة، لأنها تسفن وجه الماء أي تقشره. وفي ذلك المفهوم نناقش البيئة الحاضنة لمشروعنا الوطني التنموي، وذلك في إطار الجهود الجبارة والنفقات الضخمة التي يتم رصدها بسخاء من الدولة، لبلورة رؤيتنا الإستراتيجية، ولترجمتها إلى منجزات ملموسة، عبر كثير من الخطط الإستراتيجية والبرامج التنموية والمبادرات المتنوعة في قطاعاتنا المختلفة، لتلتقي جميعها في منظومة من المنتجات المؤسسية والإفرازات التنموية المادية والبشرية، التي تعكس في مخرجاتها، وجه المملكة الحضاري الذي تستحقه، والذي نعمل عليه جميعنا، ونتطلع إلى نموذجه المشرف، كمواطنين وداعمين لجهود وطنية تُبذل للنهوض والارتقاء بوطن يستحق الصدارة والتمكين، لما حباه الله من مقدرات وإمكانات تميز بها بين الأوطان، ولتكون له لواءً ومعياراً، للمصداقية والوحدانية والإخلاص، ولذلك نفخر بهذا الوطن المعطاء. ومن البدهي أن تحقيق أهداف الإنجاز المأمول لهذا النموذج الطموح، يقتضي الأخذ بالأدوات القوية المناسبة والملائمة لتحقيق تلك الأهداف، باختلاف مساعينا التنموية وتطلعاتنا الوطنية صوبها، وذلك يتطلب بدوره العمل بشفافية وبجدارة وتمكّن عالٍ، في تطوير آلية وإدارة دفة ذلك المشروع الوطني المستهدف، والذي لن يتحقق إلا بتعاون قوي وجهود مشتركة بين المؤسسات والأفراد، يتمثل في ذلك الهيكل المؤسسي للوزارات والهيئات المهمة المعنية بالتنمية، بجميع ما تتضمنه من كفاءات وموارد بشرية لجميع سلم هيكلها الوظيفي، وفي لوائح وتشريعات منظمة للعمل وحاكمة لمسيرته نحو النموذج المرتقب والمعيارية المأمولة. تتداول وسائل الإعلام المختلفة منذ سنوات إشكال الشهادات الوهمية والمزورة، ويتكرر ذلك -وبشكل مكثف- يوميا في وسائل التواصل الاجتماعي، والموضح بالأسماء والأوطان والجهات التي يفد منها، ويعمل بها أولئك «الخائنون» للأمانة العلمية والوطنية والإنسانية والدينية، وقد حوى المضمون بعضا من دول مجلس التعاون والدول العربية، وبعضا من الهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية وغيرها.


وعليه التساؤل القائم والتعجب الاستفهامي الكبير يدور، حول طبيعة ردة الفعل الرسمية المتوقعة بدهيّا، نحو سلوك كهذا يدق إسفين التدمير لمسيرتنا التنموية بكل مقوماتها، والذي أخذ في التوسع والانتشار في ظل التجاهل والتعامي من الجهات المعنية والمسؤولة بالمتابعة والمحاسبة، وبما يبث بدوره الاطمئنان والسكينة في قلوب تلك الأنفس المريضة، لمزيد من التوسع والانتشار بمفرزاتها السامة ومخرجاتها المزيفة، ليتقلد هؤلاء مناصب قيادية وعادية تتناثر بين مؤسساتنا المختلفة، ويحملون بأيديهم الملوثة بالغش والخداع، راية التنمية ومسيرتها المنتظرة، فماذا ننتظر بعد ذلك؟!؛ هل نأمل في تحقيق مستهدفاتنا المأمولة وهناك من يندس بيننا من حاملي تلك المؤهلات المحسوبة علينا، سواء كانوا مواطنين أم غير مواطنين؟! وهل يمكن أن يقدم هؤلاء للوطن مُنتجاً فكرياً وأداءً عملياً، يعكس خلاله تجارب علمية عميقة ومعارف متخصصة، يستفيد منها الوطن بمنشآته المؤسسية وموارده البشرية؟! وهل يُعقل أن يُهمش حاملو المؤهل العلمي الحقيقي من المتخصصين من المواطنين، ليتصدر حاملو المؤهل المزيف الوظائف والمناصب؟!، وهل نرتجي بعد ذلك إمكان التوظيف لذوي المصداقية والأمانة في مؤهلاتهم؟! أم إن ذلك يعدّ -فعليا- من أحد أهم أسباب عرقلة التوظيف للمواطن المؤهل؟!&
ومن جهة أخرى، التساؤل الأهم هو: هل هناك تقدير حقيقي واستشراف واع مسؤول من الجهات المعنية لحجم الأثر السلبي لتلك الشهادات على واقعنا ومستقبلنا التنموي؟! أم إن الأمر لم يتعد دائرة العلم بالشيء وبوجوده، ولكن يتم تجاهله عمدا!؟ أم إنه حتى لم يدخل دائرة علم المسؤول لأبعاد القضية؟! أم إن هناك كثيرا من الإجراءات والآليات التي ما زالت تدرس فعليا خلف الكواليس منذ سنوات حول، كيفية منع تسرب مثل تلك المؤهلات إلى سوقنا الوطني، وكيف يمكن مواجهة ومساءلة ومحاكمة حاملي تلك الشهادات؟!، أم ينطبق علينا المثل القائل إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، أو كنت تدري فالمصيبة أعظم!.


مما لا شك فيه، أن التمكين من ضبط أي اختلال أو إخفاق في مجريات الأمور المختلفة، يكون بتحديد جهة معنية متخصصة ومعروفة رسميا، ومسؤولة عن جميع ما يتعلق بذلك الشأن، من إجراءات وضوابط حاكمة له، وبما يستند إليه من تشريعات ولوائح مفصلة، توضح بدقة ما يتضمنه من تفاصيل تنظيمية وإجرائية، وما يرتبط به كذلك من جهات مختلفة، وما يتعلق به من قوانين مساءلة وحوكمة وغيره، وبذلك نكون قد وضعنا خارطة الطريق لآلية المعالجة والحوكمة لكثير من قضايانا الشائكة أو المبهمة أو تلك التائهة، التي تتوزع مسؤولياتها بين جهات عدة، حتى لا تضيع القضايا بين القطاعات المختلفة بمسؤوليها وأنظمتها المتشابكة والمعقدة. وإذ إن فحص جودة ومصداقية الشهادات العلمية بمجملها، يعدّ مسؤولية مزدوجة ترتبط بالتعليم من جهة، للتثبت من مدى مصداقية المرجعيات العلمية للمؤهلات ودرجة اعتمادها عالميا، بينما ترتبط من جهة أخرى في جانبها التطبيقي، بالجهات المسؤولة عن سوق العمل، بقطاعيه العام والخاص، لكونهما الميدان الوطني لممارسة واختبار جدوى تلك المؤهلات عمليا كمنتجات ملموسة،


وعليه فإن وزارتي الخدمة المدنية والعمل معنيتان بربط التوظيف، ومنْح تراخيص العمل والتأشيرات، بناء على الفرز الأولي والمطابقة من الجهات الخاصة بالتعليم والتدريب وموثوقيته، وفي ظل تراكم مسؤوليات التعليم وتشعب برامجه ومنظومته، فإننا نحتاج إلى هيئة عليا مستقلة «فاعلة»، معنية بتقييم التعليم وجودته من جهة، وتقييم المؤهلات العلمية وجودتها والمصادقة عليها من جهة أخرى، وذلك يشمل مؤهلات جميع العاملون في السوق الوطني من المواطنين وغيرهم، بحيث لا يمكن أن يلتحق أحد بسوق العمل، إلا بعد تحصيل المصادقة لمؤهلاته من الهيئة المعنية، والمرتبطة بشؤون التوظيف ومنح رخصة العمل في القطاع المقصود، وخلال اللوائح والتشريعات، يمكن بناء معايير ضابطة للعمل تتيح الحوكمة والمساءلة للأفراد والقطاعات برمتها، لأن مخالفة تلك المعايير واللوائح النظامية لا ينحصر أثره السلبي على قطاع أو مؤسسة أو فرد، وإنما تتسرب مخاطره وإفرازاته السامة إلى كل القطاعات الأخرى ولأفراد المجتمع بصفة العموم، إذ إن سوق العمل يعمل كمنظومة متكاملة تتبادل المنافع والمصالح، كما تتبادل المساوئ والسلبيات، والتي ينعكس طرحها على المجتمع الذي يحويها، وذلك بدوره سيمتد تأثيره إلى بناء معايير ومبادئ وقيم ثقافية مختلة ومغلوطة لأفراد المجتمع، بما يهدم المثالية ويدمر الطموح. وعليه، فإن قضية الشهادات المزورة الصادرة بصفة غير شرعية من جامعات معروفة، أو الشهادات الوهمية التي تفتقد وجودا فعليا على أرض الواقع، وما شابه ذلك من المؤهلات، تحتاج إلى موقف قوي وجاد وعاجل من الجهات المعنية، بعد أن توسعت في الانتشار وتفشى طرحها، حتى أصبحت إسفينا يدق في مسيرة التنمية، ومعولا يهدم آمالا بنيناها، ويبدد جهودا بذلناها، ويهدر أموالا أُنفقت بسخاء، لبناء نموذجنا التنموي المأمول منذ عقود مضت، وما زالت تتوالى الخطط التنموية والرؤى الإستراتيجية لنحصد نجاحا وطنيا مميز لنحقق به مستقبلا مشرقا يبشر بالريادة والعطاء، لوطن يستحق الصدارة، ولأمة جديرة بالزعامة والانطلاق.
&

&