علي نون

صعب الافتراض، حتى في ذروة الرحابة، أن "حزب الله" اكتشف أخيراً فضائل الديموقراطية الكريمة والعدالة الكامنة في الاحتكام إلى آراء الناس وإراداتهم لرسم السياسات والسَّير على هديها.. أو أنه صار يحترم آليّة صناديق الاقتراع أكثر مما "يحترم" صناديق الذخائر والصواريخ للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها وقرّر تبعاً لذلك أن يضرب قدمه في الأرض ويطلب (وعزّ الطلب) تمثيل سنّة 8 آذار في الحكومة العتيدة!

وصعب أكثر الافتراض أنه يهتم فعلياً وعملياً وعلى السطح وفي العمق بزيادة وزير محسوب عليه أو عكس ذلك.. أو أنه مهموم برفع منسوب الأداء في الطقم السياسي للسلطة التنفيذية، أو أنه معني بقيام تشكيلة متجانسة تستطيع مواكبة مصائب لبنان واللبنانيين بما يليق وأكثر.. ولا يمكن بلوغ هذا الهدف "النبيل" في رأيه وعُرفه من دون كسر "إحتكار" تمثيل طائفة رئيس الحكومة سعد الحريري من قبل تيار الرئيس الحريري ودفعه إلى الإذعان لـ"متطلّبات المصلحة الوطنية العليا"!

"حزب الله" في مكان آخر، كياناً وفكراً وممارسة.. وقصّة الانتخابات في أصلها وأساسها وفصلها وربطها واحدة من عدّة الشغل البرّاني والشكلي وليست ولم تكن ولن تكون سنداً مكيناً لمقاماته النضالية، وعماراته الخلاصية والرسالية، وارتباطاته المحكومة بالنصوص الدينية المنزّلة وبتأويلاتها وتفسيراتها وفقهها وليس بالنصوص الدستورية الوضعية ولا بجذورها المؤدلجة التي تنظِّم في عالم اليوم، معظم عالم اليوم، شؤون الحكم وكيفية الوصول إليه وتداوله وممارسته وآلياته وشروط وقوانينه!

قبل الآن بقليل، عايش اللبنانيون في دورتي انتخابات 2005 و2009، تلك الخلاصات والاستنتاجات وارتضوا بها! في الأولى فاز تحالف 14 آذار عملياً ونظرياً لكن الحكومة التي جاءت لم تخرق السقف المانع للأحادية في بلد متعدّد ومتنوّع مثل لبنان.. بل انتصرت الأعراف والحسّ السليم على الدستور وشقاوة الكسر والاخضاع! وفي الثانية كان الأمر أنحس وأعقد: فازت 14 آذار مجدّداً وتكرّرت الحكاية ذاتها. سوى أن فرادة تلك اللحظة كمنت تماماً في ما سبقها وعلى لسان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله نفسه الذي أفصح بوضوح ليزري عن معادلة صادمة عاد ونسفها بعد ظهور النتائج: "فليحكم وحده من يفوز"! ويومها كانت حساباته وقراءاته واستطلاعاته تبشّره بفوز كاسح! وأخذ يعدّ العدّة للخطوة التالية استناداً إلى ذلك الوهم في جملته! ومع هذا عادت التسوية لتفرض أحكامها! وعادت دفّتي الميزان للاعتدال وفقاً لواقع الحال وليس للأنويات الحزبية أو الطائفية أو المذهبية.. واستناداً بطبيعة الحال إلى الاحترام الجليل لمفردة الميثاقية وشروط العيش المشترك! وأخذاً في الاجمال والتفصيل بحقيقة أن سياسة التفرّد والعزل والاقصاء هي عنوان أزمة واشتباك وبلايا حتى لو كانت ترجمة بريئة للدستور وأحكامه ولأرقام صناديق الاقتراع وخلاصاتها!

"حزب الله" ومشتقاته ومتفرّعاته ليسوا في هذا الوارد اليوم! مثلما أنهم لم يكونوا كذلك سابقاً. لا في تميّزهم السلاحي ولا في ممارساتهم داخلياً وخارجياً ولا في سياساتهم التي تعكس ارتباطهم الإيراني قبل الوطني. وهذه دلّت في سوريا والعراق واليمن والبحرين وإزاء السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرها، أنها لا تأخذ في الحسبان والاعتبار لا الدولة الجامعة ومسؤولياتها، ولا الميثاقية الوطنية، ولا مصالح عموم اللبنانيين الذين يمكن أن يدفعوا أثمان أخطاء ليسوا مسؤولين عنها.. تماماً مثلما حصل ويحصل بالفعل!

الحزب الذي اخترق أسس الميثاقية على الأرض من خلال "سرايا المقاومة" يريد الآن إكمال الشوط بـ"سرايا وزارية" معطياً لنفسه "الحق" الذي ينكره على غيره: يتدخل في شؤون تمثيل الدروز والسنّة فيما هو لم يتحمّل حتى نزول مناوئين له لمنافسته على مقاعد نيابية في بيئته ومداره وعالمه! بل إنه لم يترك مثلبةً أو مذمّةً إلا وأسبغها على هؤلاء من بينها واحدة رنّت بصخب في البقاع تفيد بأن المنافسين له هم جزء من المنتوج الداعشي.. دفعة واحدة!

لطالما كانت حساباته شديدة الأنانية وتفتقد للرحابة والكرم، وهذه تدفعه راهناً إلى جشع نافر، وأضراره أكبر من فوائده وتقرّبه وتقرّب لبنان معه إلى لحظة كسر روح "التسوية" الرئاسية من دون أن "يستوعب" جملة مخاطر ذلك الكسر! وتداعياته على الاقتصاد والمال والأمن الاجتماعي و"المصالح" المشتركة لعموم اللبنانيين من دون استثناء!

يتسلّى بالناس وأزماتهم. ويوغل في البطر والابتزاز، ويجعل من تفصيل فرعي صغير سبباً لأزمة أساسية وكبيرة!
&