أتاحت الانتخابات العامة الأخيرة في أفغانستان الفرصة الجديدة للمثقفين والخبراء لوصم قضية بلادهم، مرة أخرى، بالقضية الخاسرة وتوجيه الدعوة للدول الكبرى التي ما تزال معنية بالشأن الأفغاني بالرحيل عن البلاد في أسرع وقت ممكن.

ووصفت الانتخابات الأفغانية الأخيرة بأنها مسرحية هزلية لا معنى لها، وذلك فقط لأن أقل من 40 في المائة من المواطنين المؤهل لهم بالتصويت قد صوتوا بالفعل، في حين وردت تقارير إخبارية لا حصر لها حول جميع أنواع الممارسات الاحتيالية للتأثير سلبا أو إيجابا على نتيجة الانتخابات.

والمشكلة الراهنة اليوم تدور حول المواطن الأفغاني العادي الذي يواجه عاصفة مروعة من المعلومات التي تبدو مثيرة للإعجاب من حيث العمق والتنوع ولكنها، مع إنعام النظر والتمحيص، يظهر عوارها وأنها نتاج الآراء الحزبية الضيقة التي تتضاعف وتتكاثر في جميع البيئات كمثل الورم السرطاني السياسي الخبيث.

ومن شأن الرؤية العصرية الحالية أن تدفعنا للاعتقاد بأن أفغانستان سوف تكون أكثر ارتياحا وقبولا لحكم حركة طالبان من حكم الديمقراطية، الذي تفرضه مختلف القوى الغربية على البلاد.

والحقيقة الواقعة القائلة إنه في أوج قوتها السابقة لم تفلح حركة طالبان في جعل أسلوب حكمها مقبولا لدى السواد الأعظم من الشعب الأفغاني يتم تجاهلها والتغافل عنها في حالة من الصمت المريب.

سيطرت حركة طالبان في عام 2000 على العاصمة الأفغانية كابل وتظاهرت بأنها تمثل الحكومة الشرعية الوحيدة في البلاد، وعبر وساطات تمكنت الحركة من إقناع إدارة الرئيس بل كلينتون في واشنطن بمنح الحركة الاعتراف الدبلوماسي الكامل.

ولم تكن إدارة الرئيس التالي جورج دبليو بوش تعارض إبرام الصفقة المذكورة غير أنها رغبت في الاستفادة من بعض الوقت لصياغة نسختها الخاصة من الصفقة. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) المريعة لتعصف بالخطة والصفقة وكل شيء في طريقها.

ومن المثير للاهتمام في هذا السياق، أنه لم يعبأ صناع السياسات في العاصمة واشنطن بالالتفات إلى حقيقة مفادها أن حركة طالبان كانت في وضع الحاكم الفعلي لأكثر من نصف محافظات البلاد البالغ عددها 32 محافظة. كما أنهم لم يعبأوا كذلك، في ذلك الوقت، بأن نصف سكان البلاد قد تحولوا إلى لاجئين ونازحين معظمهم إلى باكستان وإيران المجاورتين.

وعلى الرغم من حقيقة أن الزعم بالشعبية العارمة التي تحظى بها حركة طالبان لم تُختبر فعليا قط في أي مجال يشبه الانتخابات الحرة في البلاد، فلا يزال لدينا نقاد سياسيون يصرون على أن طالبان ذات الآيديولوجية العتيقة هي الممثل الحقيقي والوحيد للشعب الأفغاني.

حتى وإن كان النظام الأفغاني الحاكم الجديد الذي قد نشأ بمعاونة الولايات المتحدة هو أبعد ما يكون عن المثالية، فإن الإخفاق الكبير لتجربة طالبان في حكم البلاد جاء من قبيل الأنباء السارة للعالم الإسلامي بأسره وما وراءه. وأظهر ذلك الفشل السياسي الذريع الذي منيت به الحركة المتطرفة في حكم البلاد أن المتطرفين الإسلامويين في مختلف أنماطهم وأشكالهم، من نظام الخميني في إيران إلى بوكو حرام في نيجيريا وتنظيم داعش في العراق وسوريا، لم يفلحوا قط في تجاوز الاختبار الانتخابي الحقيقي للمصداقية والشعبية بأي صورة من الصور.

وأولئك الذين يرفضون الانتخابات العامة الأفغانية تحت ذريعة انخفاض مستويات الإقبال على التصويت يتغافلون عامدين عن حقيقة صارخة بأن السياسات الانتخابية تستغرق وقتا طويلا، قبل أن تتحول إلى ركن راسخ من الثقافة الراهنة في الأمة. وفي بريطانيا العظمى، التي شهدت ميلاد السياسات الانتخابية الديمقراطية، اقتصرت مشاركة الناخبين على نسب لم تتجاوز 10 إلى 12 في المائة في أول الأمر، وذلك بسبب أن عددا قليلا للغاية من المواطنين كانوا هم المؤهلين للتصويت في الانتخابات في حين لم يُسمح للنساء بالتصويت حتى عشرينات القرن الماضي. واستغرق الأمر من بريطانيا والولايات المتحدة ما لا يقل عن قرن ونصف القرن حتى بلوغ مرحلة النضج الانتخابي، وانطلاق المواطنين زرافات ووحدانا إلى مختلف مراكز الاقتراع في مختلف أرجاء البلاد.

ولا يجد أي مراقب من المراقبين الغربيين أي صعوبة في تصور المسافة الجغرافية الفاصلة بين لندن وكابل، ولكنه قد يجد صعوبة بالغة في قياس الفارق التاريخي بين المجتمعين بقدر ما يتعلق الأمر بالسياسة.
ومع ذلك، فمن قبيل المعجزات الباهرة أن تجد ملايين المواطنين الأفغان قد تجاوبوا بصورة إيجابية مع الانتخابات الأخيرة، ويعتبرون الممارسة الانتخابية من أكثر الوسائل فاعلية في التأثير على عملية صناعة القرار السياسي في بلادهم. فإن احتاجت الديمقراطيات البريطانية والأميركية إلى 20 أو 30 عملية انتخابية كي تبلغ مرحلة النضج السياسي، ألا ينبغي أن نمنح الشعب الأفغاني الفرصة والوقت والمجال الكافي للمرور عبر 10 حالات انتخابية على الأقل؟

وكشفت دراسة استقصائية حول القضايا المثارة، والمنصات المطروحة، والخطابات الملقاة، والمناقشات التي أجريت، عن درجة من الجودة السياسية لم أتوقع بنفسي وجودها في المشهد الانتخابي الأفغاني. ويبدو أن أرجاء البلاد كافة، ولا سيما المناطق الحضرية، قد تحولت إلى ما يشبه المدرسة العملاقة من الممارسات السياسية الناضجة. ووفقا لدراسة أجريت لا تستند إلى أسس علمية، فإن هناك ما يقارب مائة مفردة وعبارة جديدة، من الاصطلاحات السياسية للمجتمعات المفتوحة، قد ولجت إلى المفردات السياسية الأفغانية خلال الانتخابات الأخيرة.

ومما يثير القدر نفسه من الإعجاب هو مستوى المشاركة النسائية الأفغانية في الانتخابات الأخيرة سواء كمرشحات أو ناخبات. وتأكيدا للقول، فإن النتائج لن تكون متناسبة مع مستوى الطاقة والالتزام الذي أعربت عنه المرأة الأفغانية. ولكن النجاح يكمن في إرساء الأساس المتين للمزيد من التقدم في المستقبل المنظور.

كما شهدت الحملة الانتخابية أيضا إثارة قضية حيوية بشأن الإصلاحات المحتملة لاستبدال النظام الرئاسي القائم المفروض من قبل الولايات المتحدة بنظام آخر برلماني. ولم تحظ أفغانستان في تاريخها الطويل بنظام حكم مركزي على الإطلاق، وذلك بسبب التنوع الديني والعرقي واللغوي الثري الذي تتمتع به البلاد، والذي يمكن أن يمثله ويعبر عنه نظام الحكم البرلماني على الوجه الأفضل. وتستمد هذه الحقيقة زخما كبيرا في الوقت الذي تبدو فيه سياسات الهوية المزعومة هي المذاق المفضل حول العالم.

وقد لا يتمكن المراقبون الخارجيون من تقدير مدى أهمية أن يكون المواطن العادي، في المجتمع المعتاد على الاختلاف والانبهار بالتراتبية الهرمية للزعامة والقيادة، قادرا على الإعراب علنا عن غضبه أو ربما احتقاره لأي كبير من كبراء السلطة والحكم في البلاد.

لا تزال الديمقراطية الأفغانية كمثل النبتة الخضراء الصغيرة التي تواجه الزوابع العاتية الشديدة. وحقيقة أنها لا تزال قائمة وتكافح وتواصل النمو قد تشير إلى حالة من التغيير الجذري في البنية الاجتماعية والثقافية الأفغانية لمجتمع يحاول المروق، هاربا من عقود من الارتباك والعنف والحرب.

لن تتمكن الانتخابات العامة الأخيرة من حل المشكلات الأفغانية القائمة التي تتراوح بين القبلية إلى الفساد الممنهج. ولكن من شأن هذه الانتخابات أن تعزز من مؤسسات المجتمع الأفغاني التي، إن أُخضعت للمساءلة الفعالة أمام الشعب، فقد تستطيع صياغة وجه السياسات المنشودة للاضطلاع بتلك المسؤوليات.

ومن شأن الانتخابات البرلمانية أن تعتبر التدريب العملي على الانتخابات الرئاسية المزمع انعقادها في العام المقبل، الأمر الذي قد يفضي إلى تسريع المسيرة الأفغانية نحو مستقبل أفضل.