&سلطان البازعي&&

المدفع المائي (Fire Hose) يعرفه رجال الإطفاء بأنه أداتهم الرئيسة في إطفاء الحرائق، إذ إنه يسلط الماء بكثافة وقوة على ألسنة اللهب فيعزلها عن الأوكسجين الضروري للاشتعال، لكنه استخدم كمصطلح لتوصيف العمليات الإعلامية التي توجهها دولة أو منظمة بكثافة لإحداث أثر ذو مردود استراتيجي في الرأي العام، وهو بهذا يكون واحداً من الأسلحة الثقيلة في القوة الناعمة. وأول من استخدم هذا المصطلح كانت مؤسسة «راند» الشهيرة في وصف أنموذج الدعاية الروسية في إغراق وسائل الإعلام بالمعلومات الكاذبة حتى تصبح أقرب للحقائق لدى الجماهير، وهذا الأنموذج هو من دون شك تطوير لممارسات وزير الدعاية السياسية في ألمانيا النازية جوزيف غوبلز.


عاد المصطلح للظهور حينما نشرت «مجموعة الدراسات الأمنية»، وهو مركز أميركي مختص بالأبحاث الدفاعية والأمنية يعمل بكثافة مع البنتاغون والقوات المسلحة الأميركية، دراسة بعنوان: «المدافع المائية في قضية جمال خاشقجي: تحليل لعملية إعلامية» (29 تشرين الأول/ أكتوبر). وتفرق الدراسة بين الأنموذج الروسي المعتمد على الأكاذيب والمعلومات المضللة، وبين الأنموذج الذي استخدمته الاستخبارات التركية بتوجيه مباشر من الرئيس رجب طيب أردوغان (كما اكتشفت الدراسة) الذي اعتمد على معلومات يمكن إثبات صحتها، إلا أن الأنموذج التركي في حالة حادثة جمال خاشقجي عمد إلى تضخيمها وإعطائها صبغة عاطفية إنسانية، إضافة إلى التدرج في بث المعلومات، بحيث لا تهدأ حالة الاهتمام، بل تبقى في حال تصاعد مستمر حتى تحولت إلى قضية دولية ضاغطة على أصحاب القرار، بأكثر مما حدث في حالة اختفاء –واحتمال اغتيال- مدير منظمة الإنتربول الدولي الصيني منغ هوينغ، الذي لم يتعد الاهتمام به في الإعلام العالمي أياماً قليلة.

والدراسة التي كتبها الدكتور براد باتي وهو خبير في العمليات المعلوماتية سبق وأن عمل مع القوات الأميركية في العراق في شكل خاص، ونك شورت وهو خبير في التحليل السياسي وإدارة وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الدارسة تتبعت مسار التسريبات الإخبارية، منذ أن تم الإعلان عن اختفاء الصحافي جمال خاشقجي رحمه الله في الثاني من تشرين الأول، ووجدت أنه بخلاف الأنموذج الروسي الذي كان يعتمد على وسائل إعلامه الخاصة، فإن الأتراك استخدموا وسائل إعلامهم ووسائل إعلام الدول الحليفة (قطر) المشاركة في هذه «العملية الإعلامية»، ووجدت الدراسة أن المعلومات تنتقل من إسطنبول إلى قنوات «الجزيرة» القطرية، ثم إلى وسائل الإعلام الأميركية، ثم تعيد «الجزيرة» نشرها منسوبة –هذه المرة- إلى الـ «نيويورك تايمز» أو الـ «واشنطن بوست»، واستفاد جنرالات هذه المعركة الإعلامية بقيادة أردوغان من أن وسائل الإعلام العالمية لا تدقق كثيراً في المعلومات المسربة من الأجهزة الأمنية والاستخبارات، وتعتبرها في العادة صحيحة على اعتبار أنها تنقل من مصادر لها طابع السرية، فلم يكن من الممكن القول إن هذه المعلومات حصلت عليها الأجهزة التركية عن طريق التنصت على القنصلية السعودية في إسطنبول، وحتى الآن لم تجرؤ الحكومة التركية على الاعتراف علناً بذلك.

وتتوصل الدراسة بعد تتبع آلاف القصص الإخبارية والتغريدات على تويتر، باستخدام كلمات البحث الدلالية، إلى أن هذه العملية بكاملها هي عملية إعلامية (Information Operation) تركية، تساندها حكومات عربية معينة، وقالت الدراسة إن وسائل الإعلام الأميركية الكبرى تعترف بأن مصادرها كانت من الاستخبارات التركية و «مسؤولين عرب» لم تتم تسميتهم.

وترى الدراسة أن المؤسسات الإعلامية الأميركية الكبرى عرفت أنه تم استخدامها كأداة في هذه «العملية الإعلامية»، وأنه حتى الـ «واشنطن بوست» اكتشفت أن الرئيس التركي كان يرسم المشهد الإعلامي الأميركي في هذه القضية، كما أن البوست كتبت قائلة: «إن فكرة أن يكون أردوغان هو الراوي النبيل في قضية خاشقجي هي فكرة محيرة وغير مريحة».

وتابعت قائلة: «منذ أن تولى أردوغان السلطة قام بتحويل الإعلام إلى أداة حكومية، وغالباً يتم ذلك بواسطة العنف والاعتقال، ولجنة حماية الصحافيين تقول إن عدد الصحافيين المسجونين في تركيا يفوق العدد في أي دولة أخرى». وتنقل عن الصحافي التركي إلهان تانير قوله: «إن نشر مثل هذه المعلومات التحريضية ضد دولة منافسة إقليمياً (السعودية) لا يمكن أن يتم من دون موافقة عليا».

ويبدو أن هذه الدراسة لو تأخر صدورها إلى بداية هذا الأسبوع لوضعت فصلاً خاصاً بالإسهام المباشر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في هذه «العملية الإعلامية»، والذي تتضح آخر قذائفه في المقالة التي نشرها باسمه في الـ «واشنطن بوست» (2 تشرين الثاني/ نوفمبر). وهذه المقالة تؤكد ما ذهبت إليه الدراسة، كما أنه يضيف إليها الأهداف الحقيقية التي يريد أردوغان تحقيقها من قيادته للعملية.

أردوغان لا يكتفي بإظهار الصلف والفوقية في تعامله مع الآخرين، ولا يخفي مطامعه في عودة النفوذ العثماني، فهو الذي قبل أن يبايعه القرضاوي في إسطنبول باعتباره خليفة للمسلمين، لكنه يستمر في اللعب على كل الحبال الممكنة معتقداً أنه سيحقق أطماعه.

فهو الذي قتل وسجن الآلاف من معارضيه ومنهم مئات الصحافيين، وهو الذي انتهك سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة (كينيا) ليختطف من فوق أراضيها المعارض الكردي عبدالله أوغلان، يأتي ليعلن أنه باعتباره عضواً في حلف الـ «ناتو» لا يقبل بانتهاك سيادته.

أردوغان الذي يحاول أن يزرع الفتنة في البيت السعودي، يجب أن يعلم، وكما أشار لذلك الباحث السعودي الدكتور محمد العزام، أن العدالة السعودية ستتحقق في هذه القضية، إذ إن كل أطرافها (الضحية والجناة المفترضون) سعوديون، وأن الجريمة وقعت على أرض سيادية سعودية (القنصلية)، وأن التعاون مع الأطراف التركية أتى من منطلق العلاقة الوثيقة التي ما زالت السعودية تتمسك بها، وأن النائب العام السعودي ذهب إلى تركيا لتحقيق هذا التعاون ولاستكمال تحقيقاته وليس للإجابة على أسئلة أردوغان وحكومته.

يا فخامة الرئيس، وفر مياه مدافعك فهي تصطدم بحائط صلب.. أو هو جبل طويق.

&