& &مصطفى الفقى

&

استضافت مكتبة الإسكندرية ندوة مشتركة مع أعضاء المقر التونسى لجامعة الدول العربية واحتشد لهذه الندوة عدد من السياسيين والدبلوماسيين وخبراء العلاقات الإقليمية، وكان محور ذلك اللقاء الثقافى الجامع هو العلاقة بين المشرق والمغرب العربيين، فهما جناحا الأمة التى تحلق بهما منطلقة من الجسد الذى تمثله مصر والسودان والدول العربية الأخرى فى القرن الإفريقي، ولقد تحدث المختصون فى هذا المؤتمر حديثًا ضافيًا وطرقوا أبواب الموضوعات المختلفة فى عمق وموضوعية وصراحة، وأستطيع أن ألخص أهم نتائج هذه الندوة المتفردة فيما يلي:

&أولًا: إن ثلثى العالم العربى عددًا يعيشون فى القارة الإفريقية ولذلك دلالة مهمة فى الارتباط بين العرب والأفارقة، إذ أن الدول العربية فى شمال إفريقيا ووادى النيل والقرن الإفريقى تشكل فى مجملها النسبة الأكبر للوجود العربى الموزع بين غرب آسيا بما فى ذلك الشام الكبير والعراق ودول الخليج العربى واليمن، ولذلك كله دلالة على الارتباط القوى بين جناحى الأمة العربية، ولاشك أن الطبيعة الجغرافية والقوى المجاورة للجناحين العربيين تؤثر تأثيرًا مباشرًا على التركيبة السكانية والمزاج الاجتماعى السائد حتى إننا نقول دائمًا إن كل ما هو شرق الإسكندرية ينتمى إلى (حضارة الُأرز ) وكل ما هو غرب الإسكندرية ينتمى إلى (حضارة الكُسكس) وذلك يعنى أن التشابه فى نمط المعيشة داخل كل مجموعة يشكل حالة من التنوع التى يتميز بها العرب والتى تؤكد وجود المشترك الثقافى العربى الذى يجعل العراقى يضحك للنكتة المصرية بنفس الدرجة التى يستقبلها المغربي.

ثانيًا: إن الجوار الجغرافى لدول شمال إفريقيا العربية - الذى جعلهم على مرمى حجر كما يقولون من سواحل أوروبا الجنوبية - قد جعل شيوع اللغات الأوروبية خصوصًا الفرنسية ثم الإسبانية والإيطالية بين دول تلك المنطقة مبررًا للارتباط بأوروبا والانفتاح الشعبى على العالم الخارجى، وهو أمر تفتقر إليه مصر والسودان ودول المشرق العربي، فأنا أظن أن انفتاح عرب تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا على اللغة الفرنسية قد أعطاهم نافذة ضوء ليست متاحة لغيرهم من العرب، وأصبح التزاوج الثقافى بين العروبة والفرنسة يحيل الإسلام إلى قومية فى حد ذاته ما دامت العوامل الأخرى مشتركة بين عرب الشمال الإفريقى ودول الوجود الاستعمارى الأوروبى التى سيطرت عليها وامتصت جزءًا كبيرًا من خيراتها.

ثالثًا: توهم البعض -ـ خصوصًا خارج العالم العربى - أن البعد الجغرافى بين دول الشمال الإفريقى والقضية الفلسطينية قد أثر سلبًا على اهتمامهم بها وهذا غير صحيح إطلاقًا، إذ أن تجاوب تلك الدول العربية مع نبضات العروبة تبدو أقوى ما تكون، فملك المغرب هو رئيس لجنة القدس والعاصمة التونسية كانت مقرًا مؤقتًا لجامعة الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أما الجزائر فدورها العروبى لا يحتاج إلى برهان لأنها دولة شديدة المراس قوية التأثير إفريقيًا وعربيًا، ولاشك أن التخوم العربية من شمال إفريقيا كانت ولاتزال وسوف تظل مؤثرة فى القضايا العربية والإفريقية بل والإقليمية والدولية فى المستقبل القريب والبعيد.

رابعًا: إن أكبر مظاهرة خرجت ضد غزو العراق لم تكن فى القاهرة أو بيروت أو دمشق، ولكنها كانت فى الرباط عاصمة المملكة المغربية لأنهم يدركون هناك طبيعة المصير المشترك والعلاقات التاريخية والجغرافية والبشرية فضلًا عن الوشائج القومية التى تربط بين المشرق والمغرب فى الوطن العربى، كما أن الموقف من جرائم إسرائيل يجد صداه بقوة فى دول المغرب العربى مثلما هو الشأن بالنسبة لدول المشرق لأن الكل يدرك أن ما جرى فى فلسطين العربية هو مشروع استراتيجى صهيونى للتأثير على المنطقة العربية واستلاب إرادتها والعبث بمواردها بل وتغيير هويتها أيضًا، ولقد قاتل الجزائريون والمغاربة فى حرب 1973 على الجبهة المصرية وسقط منهم شهداء مثلما سقط شهداء أيضًا فى تلك المعركة الفاصلة من أبناء الكويت الشقيق.

خامسًا: إن اهتمام دول الشمال الإفريقى بقضايا قارتهم وتأثير المغرب والجزائر فى غرب إفريقيا لم يمنعها من الانخراط بشدة فى قضايا المشرق العربى بل إن علاقات السعودية والأردن وثيقة بالمغرب، كما كانت علاقة سوريا بالجزائر ولذلك فإنه لا محل للحديث عن تجمع مشرقى أو استقطاب مغربى فالكل يمضى على طريق واحد هو القومية العربية والانتماء لإقليم شمال إفريقيا وغرب آسيا، وعندما طرح الزعيم التونسى الراحل (الحبيب بورقيبة) أفكاره تجاه المجتمع المدنى العربى والحل التدريجى للمشكلة الفلسطينية، وتحرير المرأة من أغلالها فإن دعوته وجدت صداها لدى الجميع لا تفرقة فى ذلك بين مشرق ومغرب، كذلك فإن القائد الليبى الراحل (معمر القذافي) كان يقود اتجاهًا متشددًا فى القضايا القومية ـــ وكان لذلك الاتجاه حسناته ومشكلاته أيضًا ـــ إلا أن ذلك ينهض دليلًا على المتانة القومية التى يعتنقها العرب مشرقًا ومغربًا.

إن الندوة التى شرفت بها مكتبة الإسكندرية فى سبتمبر 2018هى دليل على حيوية العلاقات بين جناحى الأمة التى تدفع نحو لقائهما فى مصر قلب العروبة النابض أو عمود الخيمة القومية كما يطلقون عليها .. إن التعددية والتنوع على الساحة العربية هى من مظاهر القوة وعلامات الهوية الواحدة لأمة يلعب العامل الثقافى دورًا أساسيًا فى تشكيلها خصوصًا باعتماده على لغة الضاد بفرادتها وثرائها وجمال إيقاعها، وليس من شك فى أن حركة التعريب فى الجزائر بعد الاستقلال قد أصبحت نموذجًا لتأكيد هذا المعنى والإشارة إليه أمام جميع التحديات والمصاعب والمواجهات.