& &نوال السعداوى

&

اشتغلت بوزارة الصحة من 1957 حتى 1972، شهدت كيف تلعب الوزارة مع نقابة الأطباء دورا فى نشر الثالوث المزمن, الجهل المرض الفقر. تركت مجال الطب العلاجى الى الطب الوقائى لأن درهم وقاية خير من قنطار علاج ولأن الداخل للمستشفى مفقود والخارج مولود، يدخل المريض بمرض واحد ويخرج بعدد من الأمراض، وكنت من الطبيبات الشابات الكادحات، نعمل ليل نهار، فى بيئة موبوءة بالميكروبات والجراثيم والفيروسات، دون أجهزة الوقاية، دون بدل العدوي، لا تحتمل ميزانية الوزارة مثل هذه الكماليات، وهى تنفق بسخاء على تجديد الأثاث الفاخر بمكتب سيادة الوزير، وهوائه المكيف، وسياراته المتعددة.

ويسمع أبى سعالى فيظن أننى مرضت بالسل، ويقول، قدمى استقالتك وافتحى عيادتك الخاصة، فالوظيفة الحكومية عبودية وسجن، لكنى كنت ضد العيادات الخاصة التى يمص فيها الأطباء دم المرضى الفقراء، ليصبحوا من ملاك الأراضى والعمارات والأحزاب، ثم ينجحون فى الانتخابات ويصبحون وزراء، كنت فتاة حالمة أصدق الروايات، يكتبها الأثرياء عن البسطاء، والخطب الرنانة، يلقيها الوزراء عن المبادئ والتضحية من أجل الله والوطن.

اخترت العمل بالثقافة الصحية فى الريف، واكتشفت أن أغلب الأمراض منها البلهارسيا، تصيب 90% من الفلاحين، ويمكن القضاء عليها برفع الوعى الصحى بطرق الوقاية البسيطة، مثلا أن يبول الفلاح فى حفرة بالأرض أو مرحاض، بدلا من التبول فى الترعة وقنوات الماء، واكتشفت أيضا المآسى التى يعيشها الأطفال، البنات والذكور، بسبب عمليات الختان، من هنا بدأت حملات الثقافة الصحية، لمنع هذه الجرائم الخطيرة فى حق الأطفال، فإذا بى أدخل عش الضبابير.

وتنقلب الدنيا ضدى برئاسة وزير الصحة ونقيب الأطباء وشيخ الأزهر، وكل من يملك السلطة، قالوا: هذه العمليات بأمر الله من أجل النظافة والطهارة، ومفيدة للصحة، تمنع الأمراض، مثل السيلان والسرطان (وأخيرا الإيدز)، وبدأت الضربات تنهال فوق رأسي، تم اتهامى بإنكار المعلوم من الدين والطب، لم يكن أمامى إلا الدفاع عن أفكارى بالطب الصحيح والدين الصحيح، فكيف يخلق الله عضوا فى جسد الإنسان ثم يأمر بقطعه حماية للصحة أو الأخلاق أو النظافة؟ وهل يمكن ترقية الأخلاق بقطع عضو من الجسم؟ وهل ننظف هذا العضو بقطعه، بدلا من غسله بالماء والصابون؟

أنقذتنى الأسئلة البديهية من أنياب القدر، اكتشفت أن الإبداع الفكرى فى الطب والأدب، هو العودة للبديهيات، التى دفنت (فى خلايا المخ) تحت طبقات الجهل والتجهيل، وصفقات التجارة فى سوق الطب والسياسة والدين، وأكدت الاكتشافات العلمية الجديدة، أن عمليات الختان شديدة الضرر للإناث والذكور، ليس جسديا فحسب، بل نفسى واجتماعي، وبدأت بعض جمعيات الأطباء فى الغرب، تقود الحملات ضد جرائم الختان، تشجع بعض الأطباء فى بلادنا، وتشجع وزير الصحة أيضا فأصدر قرارا بمنع عمليات الختان إلا بمشرط الطبيب داخل المستشفي، ثم حدثت المآسى المفزعة بمشارط الأطباء، فأصبح الختان فى القانون المصرى جنحة، وبعد المزيد من اكتشاف المخاطر،أصبح الختان جناية بالقانون، وليس جنحة فقط يعاقب عليها الطبيب بالسجن.

بعض برامج ثقافية قامت بها هيئات حكومية منها وزارة الصحة باسم مناهضة ختان الإناث، إلا أنها كانت متقطعة مترددة، تصحو فجأة مع موت طفلة فى عملية ختان، ثم تنام طويلا، تشبه حملات تمكين المرأة ، تظهر فجأة، ثم تختفى فى عالم الأشباح، يتزايد عدد الوزيرات، ويتزايد النقاب والحجاب، رغم خطورة النقاب على الأمن العام والصحة العقلية، لم يتم تجريم النقاب فى القانون، ورغم تجريم الختان بالقانون، لم يعاقب طبيب واحد، ثم تموت طفلة بمشرط الدكتور المعقم، أو يبتر حلاق الصحة رأس العضو فى جسد الطفل، أو يتنكر رجل تحت نقاب امرأة ويقترف جريمة قتل، تهتاج المشاعر وتعلو الأصوات، امنعوا الختان امنعوا النقاب ثم ينام الجميع.

خلال الأعوام الستة عشر من حياتى المهدرة بوزارة الصحة، كان الوزير منهم يأتى ويذهب، دون أن نعرف كيف ولماذا؟ وكانت فرائص الوزارة تنتفض لمشهد سيارة الوزير الطويلة السوداء المسدلة الستائر، وكان بعض الوزراء، يطلبون أن أكتب خطبتهم عن المنجزات الصحية، وأقول لا، حررتنى الكلمة الصغيرة من السجن الكبير.