محمد علي فرحات&&

لم يكن مجدياً السهر الطويل لمتابعة الانتخابات النصفية الأميركية ومعرفة نتائجها الأولى. والساهرون معظمهم من الشرق الأوسط، لكنهم توزعوا أيضاً على دول الشرق والغرب، في شهادة أن الولايات المتحدة هي الأكثر تأثيراً في عالمنا اليوم، تماماً كما كانت الإمبراطورية الرومانية في الماضي البعيد.


وتميزت الانتخابات النصفية هذه المرة بتمحورها حول الرئيس دونالد ترامب تأييداً أو معارضة، بحيث بدا الحزب الجمهوري كياناً شبحياً لا تكاد تميز فيه شخصية بارزة. أما الحزب الديموقراطي فظهر أيضاً كياناً باهتاً بحيث أن الرئيس السابق باراك أوباما النشط في الحملات المناهضة لترامب لم يستطع تقديم شخصيات كاريزمية في حزبه تساعده في مهمته الشاقة. بذلك تكون الانتخابات ميدان صراع بين ترامب ومعارضيه الذين أظهر الاقتراع أنهم انتخبوا مرشحي الحزب الديموقراطي، فقط لمناهضة ترامب وليس لاستعادة صورة الديموقراطيين التي أسدل ترامب عليها الستار بخطبه الشعبوية وبلغته التي لا يتقنها مثقفو الحزب الديموقراطي وقادته الآتون من جامعات الدرجة الأولى.

الضرائب، الهجرة، الاقتصاد. ثالوث كان يحرك الناخبين الأميركيين. أما السياسة الخارجية فليست في دائرة الاهتمام، بل لا خلاف جوهرياً عليها بين ترامب وخصومه. من هنا فإن جهد الغالبية الديموقراطية في مجلس النواب سينصب على التدقيق في قوانين ترامب المتعلقة بالداخل، وفي تطويع شخصيته ليبدو رأساً للسلطة الأميركية من حيث هي مؤسسات وليس قائدها غير المنازع أو نجمها الساطع.

كشف سلوك ترامب بوضوح جانباً من المجتمع الأميركي بدأ يضيق بالتعددية، وهو أمين لوعود قدمها لأنصاره الذين تتمركز غالبيتهم في الجنوب حاملة جينات الحرب الأهلية التي انتهت بتكوين سياسي جديد على قاعدة تحرير العبيد. والضيق بالتعددية لاحظه المراقبون في إهمال ترامب الأقليات إن لم نقل حملته عليها، خصوصاً في خطوته الغريبة بمنع التأشيرات عن مواطني سبع دول إسلامية. وتطور الضيق بالتعددية إلى طرح شعار «أميركا أولاً» مشفوعاً بالحط من شأن علاقة الإدارة الأميركية بحلفائها التاريخيين، خصوصاً في أوروبا. وأدى الأمر بترامب إلى ازدواجية بين وطنية تعبر عن نفسها بالانكفاء عن الآخر ورأسمالية معلنة تطلب تكييف الآخر قسراً مع مصالحها، ما يشي بصورة ناعمة من الاستعمار الذي كان حديدياً أو خشبياً على الأقل.

لم يستطع ترامب إسقاط التعددية إنما سخر منها واعتبرها نوعاً من الخطر على الشخصية الأميركية. خطاب متناقض هو الآخر، لأن الولايات المتحدة في تكوينها الأساسي دولة مهاجرين مدعوين للاعتراف المتبادل بتنوعهم في إطار الولاء لأميركا الذي يفتخرون به. والواقع أن الروح الأميركية هي لقاء أرواح تنتمي إلى الحضارات الأصلية للمهاجرين، ففي الروح الجامعة تجد الإنكليزي والإرلندي والهولندي والألماني والفرنسي واليوناني والروسي والأوروبي الشرقي والعربي (اللبناني والسوري أساساً) والصيني والياباني. وفي المقابل يجد حاملو هذه الهويات المقيمون في أوطانهم، شيئاً من القرابة الروحية مع الولايات المتحدة. إنهم يحبون أميركا حقاً، ويبدو ترامب قاصراً عن فهم هذا الحب إذ يعتبره نوعاً من الطمع. نتائج الانتخابات النصفية قد تعيد ترامب إلى مؤسسة الدولة وتقاليدها، لكنه لن يعود تماماً، فقد أسس هذا الرئيس مرحلة الانقسام في المجتمعات الغربية، وأربك العلاقات الدولية، بحيث باتت قوى العالم الرئيسية مدعوة إلى تجاوز الصراعات العابرة نحو تجديد عقد السلام بين الأمم، وإعادة النظر في التراتبية العائدة إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.