& فـــؤاد مطـــر

&هذا البلاء الثقيل الوطأة الذي حل على إيران يوم الاثنين 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 لن تقلل من وطأته المكابرة الثورية مهما اختار أولو الأمر من صِيَغ المكابرة رداً عليه، كان ربما في استطاعة الجمهورية الإسلامية تفاديه لو أن النية الطيِّبة تقدمت على ما نقيضها، ولو أن الحنكة مهدت الطريق أمام التبصر في الأمور وتقديم الحمد والشكر أي الاهتمام بالداخل وجمْع الشمل الإيراني وتحويل إيران من خلال التوظيف الحلال لثروة النفط إلى دولة متقدمة مثل تركيا أو ماليزيا، على شراهة التدخلات في بعض دول الجوار وما يحلو لحرسها ويتيسر من تحرشات في صيَغ مستقرة نسبياً على نحو الصيغة اللبنانية التي تعيش حالات من الاهتزاز المتقطع نتيجة إصرار المشروع الإيراني الثوري على اعتبار هذا الوطن العربي الصغير خاصرة له على ضفاف البحر الأبيض المتوسط... هذا إلى تفريس متدرج لسوريا مفترضة أن هذه كما اليمن يمكن أن ترضيا عن العروبة بديلاً.

وعندما نفترض إمكانية تفادي التصميم الترمبي الذي سينعكس تطبيق مضامين إجراءاته على إيران الشعب والحُكم على حد سواء، فإننا نستحضر من الذاكرة كلاماً سمعناه من أحد رموز الدبلوماسية الوقورة البعيدة النظر الأمير سعود الفيصل، رحمة الله عليه، قبْل أربع سنوات، وكانت أزمة العرب وبالأخص المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج مع إيران ما زالت على مشارف الخط الأحمر، أي بما معناه يمكن معالجة الأمر بالروية والنية الحسنة والرد على التحية بمثلها، وعلى الاقتراح الصافي المقصد بالتجاوب معه، والأخذ بالقول التنبيهي الطيِّب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه «ما أضمر أحد شيئاً إلاَّ ظهَرَ في فلتات لسانه».
كان ذلك يوم الثلاثاء 13 مايو (أيار) 2014 حيث إننا مجموعة من الصحافيين والمراسلين كنا نغطي فعاليات «منتدى الاقتصاد والتعاون العربي مع دول آسيا وجمهورية أذربيجان» استضافتْه العاصمة السعودية، وتزامن انعقاده مع اجتماع في مدينة جدة لوزراء الدفاع في دول مجلس التعاون الخليجي، شارك فيه بما بدا مفاجئاً وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل. ولقد دعينا إلى مؤتمر صحافي قيل لنا إنه سيكون على درجة من الأهمية سيعقده الأمير سعود الفيصل وكان محاطاً بالأمين العام للجامعة العربية (زمنذاك) نبيل العربي ووزير المالية السعودية (السابق) إبراهيم العساف.
كان المؤتمر بالفعل على درجة من الأهمية، حيث إن الأمير سعود ورداً على سؤالنا حول إمكانية الحوار مع إيران وترويضها بأمل التعايش الهادئ مع جيرانها، سجل في عبارة من 49 كلمة مبادرة لو أن إيران تعاملت معها بحُسْن النية وبتفادي فلتان اللسان أحياناً من جانب مسؤولين فيها وكثيراً من جانب مرجعيات لبنانية مرتبطة بها، وكذلك بالجدية التي تحتاجها مبادرات من هذا النوع، لكانت أحوال المنطقة الآن على درجة من الاستقرار ولكانت إيران لملمت بقايا تدخلاتها وبدأت الكتابة في صفحة استقرار المنطقة وأبعدت العقوبات الراهنة عنها.


فاجأ الأمير سعود الفيصل الحضور وبما رأيناه زمنذاك تطوراً مهماً على صعيد العلاقات العربية - الإيرانية المتنقلة التوتر من بلد إلى آخر بالقول: «هناك رغبة في إعادة التواصل مع إيران وقد جرى إرسال دعوة إلى وزير الخارجية محمد جواد ظريف لزيارة المملكة. ولكن هذه الزيارة لم تتحقق. آمل أن تسهم إيران في استقرار المنطقة وألا تكون جزءاً من خلافات بين البلديْن...».
مبادرة الأمير سعود جاءت لتضيف المزيد من التعبير عن الرغبة في علاقة مستقرة للجارة إيران مع دول المنطقة. وجاءت بمثابة رد على التصريح بمثله ونعني بذلك عبارة قالها الرئيس حسن روحاني قبل بضعة أشهر (يونيو/ حزيران 2013) في بداية إطلالاته الكلامية رئيساً وقوراً للجمهورية من نسيج سَلَفه الرئيس خاتمي، وهي «أتمنى أن تكون لنا إن شاء الله خلال فترة الحُكْم المقبلة علاقات جيدة جداً مع الجيران وخصوصاً السعودية...».


ما تمناه الاثنان لم يتحقق. لم يلبِ وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف الدعوة التي وجَّهها الأمير سعود الفيصل لأن سلطة الحرس الثوري المتوجة برضا المرشد علي خامنئي منعت ذلك. وتدليلاً من جانبها على تبهيت المبادرة جرى إرسال مسؤول من الصف الثاني في الخارجية الإيرانية للمشاركة في مؤتمر إسلامي وليس تلبية لدعوة الأمير سعود، وهذا في حد ذاته خروج على الأصول وعلى أدبيات العمل الدبلوماسي. كما أن السلطة الحرسية نفسها أهالت بعض المفردات الثورية الجارحة من خلال فلتات اللسان على ما تمناه الرئيس روحاني. ولم يقتصر الأمر على الاستهانة وكتْم صِدْق رغبة روحاني، وإنما رفعت إيران درجة التدخل والتحرش حيث تريد وتستطيع، فجعلت من سوريا عمقاً حربياً لها شاركها فيه لاحقاً المشروع البوتيني المتطلع إلى غسل الأقدام الروسية في بحر طرطوس وتجربة أنواع من الأسلحة المتقدمة الجديدة الصنع في ضربات على سوريا البشر والحجر. ثم رفعت تدخُّلها في اليمن درجات من دون أن تترك للسعي الأممي للتسوية سبيلاً. وها هي بعد عدم التقاط مبادرة سعودية ووأد أمنية سابقة لرئيس الدولة حسن روحاني تسير خطوة خطوة للوقوع في جب العقوبات الأميركية، مع أن صِدْق التعامل مع المبادرة والأمنية المشار إليهما كان كفيلاً بحدوث تعاون بين الدولتيْن الأكثر تأثيراً في المشهد الإقليمي. ومثل هذا التعاون كان سيلقى من شعوب الأمتيْن العربية والإسلامية خير ترحيب ما دام سينشر الطمأنينة وينهي احتمالات التدخُّل في شؤون هذه الدولة العربية وتلك الدولة الإسلامية.
هل بعد فوات الأوان ليس هنالك فرصة للأخذ بالتفهم والسير على هدي المنطق والنأي عن التطلعات التي تؤذي؟


بعد انسحاب أميركا ترمب يوم الثلاثاء 8 مايو 2018 من الاتفاق النووي ساد افتراض بأن السلطة الثورية في إيران التي تدرك ما الذي تعنيه العقوبات على بقاء النظام وقبول الناس باستمراريتها وأن رهانها على انقسام دولي في هذا الشأن سيقلل من تأثير العقوبات، كان مثيراً للدهشة موقف الرئيس روحاني الذي بدل أن يكون حكيماً ومحنكاً رد بلسان السلطة الثورية وليس بلسان مَن تستوجب الخطوة اعتماد الحكمة والحنكة واستعمل مفردات غير تلك التي قالها مثل عبارة إن «الحرب مع إيران ستكون أم المعارك»، اقتباساً حرفياً لعبارة الرئيس (الراحل) صدَّام حسين التي لم تُبعد عنه الضيم الأميركي بأعلى درجات القسوة.
اللهجة نفسها لم تتغير بعد قرار العقوبات الجديدة ومن دون أن يأخذ أهل السلطة الثورية في إيران في الاعتبار أن الفرصة التي أضاعوها كانت إذا هم أخلصوا وارتضوا حُسْن الجوار وخير التعايش بأفضل العلاقة، لن تحوجهم إلى مواجهة مكاره العقوبات التي لا تفيد في علاجها فلتة لسان من هنا وتهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور من هناك، كتلك التي حفلت بها قواميس الثورة على مدى 39 سنة. والله المنجي لمَن اهتدى.