& سليمان جودة

&

في الخامس من هذا الشهر، كان محمد بن عيسى، وزير الخارجية والثقافة المغربي الأسبق، الأمين العام لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي، ضيفاً محاضراً في منتدى عبد الحميد شومان في العاصمة الأردنية عمان، وكان قد اختار لمحاضرته الموسعة هذا العنوان: «النُخب والأزمات العربية... رهانات المستقبل». وهو عنوان كما يتبدى في صياغته المقصودة، لا يتطلع إلى شيء قدر تطلعه إلى مستقبل يليق بوطننا العربي الكبير، ولا يتعلق بشيء قدر تعلقه بمستقبل لا يجوز أن يفوتنا!


وفي المحاضرة راح الرجل يعدد الأزمات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط التي نعيش فيها، ونصطلي بنارها، سواء بمعناها التقليدي التاريخي القديم، أو بمعناها الواسع المعاصر، وكان تقديره أنها أزمات خمس، وأن النخب التي يعنيها في محاضرته، مسؤولة قبل غيرها عن التعامل الإيجابي مع الأزمات الخمس، في اتجاه تجاوزها، وليس أبداً في اتجاه التعايش معها، وأن حال هذه النخب في اللحظة الراهنة يقول إنها، إما قاعدة عن الذهاب إلى استحقاقات المستقبل، وإما غارقة في ماضوية جامدة، أو الاثنان معاً، وإنها مدعوة إلى أن تتخلى عن هاتين الحالتين سريعاً، ثم إلى أن تتبنى نظرة استشرافية حية تصنع التاريخ، وتكرس فاعلية الإنسان وإرادته الحرة!


ولم يكن المحاضر ليفعل ذلك، دون أن يحدد بالضبط ما يقصده من وراء كلمة النخب... إنها في تصوره تضم الزعامات السياسية، والصفوة المثقفة، والقوى المدنية الفاعلة... وهي بهذا التكوين الثلاثي، بل لهذا التكوين الثلاثي، مسؤولة عن الخروج بعالمنا العربي من أزماته الخمس التي أحصاها في حديثه، أزمة تلو أخرى، بدءاً بالوضع المسدود الذي وصل إليه النظام الإقليمي العربي، والمأزق الذي وصلت إليه علاقات الجوار الجغرافي، وبشكل خاص مع إيران ومع تركيا، ومروراً بمأزق انهيار الدولة الوطنية في بعض عواصم العرب، وتوقف مسار التسوية السلمية للصراع الفلسطيني العربي - الإسرائيلي، وصولاً إلى المسألة الدينية التي تشهد تطرفاً دينياً عنيفاً، وتكريساً للكراهية، والغلو، والتشدد، بكل ما لذلك من تأثير على تقويض علاقة المسلمين بالعالم!
ولأمرٍ ما، بدا لي أن علاقة غير مباشرة تقوم بين مضمون محاضرة الوزير بن عيسى، وبين محتوى خطاب ألقاه في اليوم التالي للمحاضرة، عاهل المغرب، الملك محمد السادس، داعياً جارته الجزائر إلى الحوار الصريح والمباشر، ومبادراً إلى فتح أفق في العلاقة مع الجارة الشقيقة، لم يسبق أن حلقت فيه علاقة البلدين من قبل!


إننا في حالة خطاب العاهل المغربي نجد أنفسنا أمام رغبة في تجاوز الوضع القائم بين البلدين، من جانب الزعامة السياسية في المغرب، التي تمثل الشق الأول في التعريف الثلاثي الأبعاد لكلمة النُخب في المحاضرة... وفي حالة المحاضرة نجد أنفسنا أيضاً، إزاء صوت من أصوات الصفوة المثقفة، يرغب في ألا يدور العام علينا، إلا والحال العربي الماثل أمامنا قد انتقل إلى منطقة أخرى، غير المنطقة التي يتوقف عندها متجمداً من سنين!
ويبقى البعد الثالث في الكلمة... إنه العنصر الخاص بالقوى المدنية الفاعلة، التي عليها في حالة المغرب والجزائر، باعتبارها الحالة المعنية بمبادرة الملك في خطابه، أن تتلقف الدعوة في الخطاب، خصوصاً على الجانب الجزائري، وأن تحولها من مبادرة إلى فرصة، ثم من فرصة إلى مساحة للحركة تمنح للمبادرة حياة تستحقها، وتبعث فيها دماءً من الدفء بين الجارتين!
ومما يلفت الانتباه في مبادرة الملك محمد السادس المفاجئة، أنها جاءت ليس فقط في ذكرى مرور 43 عاماً على المسيرة الخضراء، التي كان الملك الحسن الثاني، يرحمه الله، قد قادها، ولكن لأنها جاءت تستلهم ذكرى مرور ستين عاماً على مؤتمر طنجة، الذي كان قد انعقد في مثل هذا التوقيت من ستة عقود، وكان يطمح إلى التأسيس لعلاقة بين المغرب وبين الجزائر، تصل بمستويات التعاون بينهما إلى ما يتجاوز تماماً مرحلة التعارض، ثم إلى ما يستأهله كل مغربي، وكل جزائري، من مستقبل تنتظره دولتان شقيقتان حاربتا الاستعمار يداً بيد!


وفي يوليو (تموز) من هذا العام، كنت قد طالعت لكاتب مغربي، في صحيفة مغربية، أمله في أن تصادف علاقة بلاده بالجزائر، أجواءً شبيهة بتلك الأجواء التي تشهدها، ولا تزال، علاقة إثيوبيا بكل من إريتريا والصومال... فمنذ وصل رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، إلى مقعد الحكم في مارس (آذار) من هذه السنة، وهو يقود علاقات أديس أبابا مع الجارتين الأفريقيتين إلى مساحات لم تكن في إطار التوقع، ولا كانت ربما تخطر على البال، لمتابعي مسارها بامتداد عقدين كاملين من الزمان، وهذا ما أدى إلى لقاء ثلاثي انعقد للمرة الثانية، الجمعة الماضي، بينه وبين الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، والرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو، بعد لقاء أول كان قبل شهرين في العاصمة الإريترية أسمرة، وقبل لقاء قمة ثلاثي آخر، جرى الاتفاق على أن يكون في العاصمة الصومالية مقديشو في القريب العاجل!


حدث هذا، ولا يزال يحدث، بين الجارات الثلاث في منطقة القرن الأفريقي، أقصى جنوب شرقي القارة، بعد قطيعة بين إثيوبيا وإريتريا دامت عشرين عاماً، وبعد حرب بينهما دامت عامين، وبعد ضحايا على الجانبين بلغ عددهم ثمانين ألف شخص، وبعد حدود مغلقة، وبعد زيارات متوقفة، وبعد حدود متوترة... وبعد... وبعد... فإذا خطوط الطيران منطلقة، وإذا الحدود تغادر توترها، وإذا آبي أحمد في أسمرة، وإذا أفورقي في أديس أبابا، وإذا الاثنان على موعد مع فرماجو في مقديشو!
روح من هذه النوعية يمكن جداً أن تنتقل بسهولة، من أقصى جنوب شرقي القارة السمراء، حيث الدول الثلاث تتجاوز واقعها بسرعة لافتة، إلى أقصى شمال غربي القارة ذاتها، حيث المغرب والجزائر يجمعهما بالتأكيد في الماضي، وفي الحاضر، وفي المستقبل، أكثر مما جمع ويجمع بين عواصم القرن الأفريقي الثلاث، من حدود، ومن مصائر، ومن مآلات!
ورغم أن أياماً قد مرت على المبادرة المغربية، دون رد فعل من الحكومة في الجزائر، فإن المتابع الموضوعي للعلاقة بين الطرفين، لا بد أن يتوقع أن تكون مبادرة كهذه، محل دراسة جادة في الجزائر العاصمة، وموضع نقاش واسع لدى صانع القرار الجزائري... دراسة جادة تتعانق مع الروح الإيجابية التي غلفت المبادرة، ونقاش واسع يستقبل مبادرة العاهل المغربي بالروح نفسها!
والحاصل أن هذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها الملك محمد السادس، إلى تطبيع العلاقات بين الشعبين، أو إلى فتح الحدود، فلقد كان دائم الدعوة إلى ذلك، منذ اعتلى عرش الحكم في الرباط، قبل ما يقرب من عشرين عاماً، ولكن وجه الاختلاف هذه المرة أنه أعلن مبادرته في مناسبتين تاريخيتين، ثم أعلن انفتاحه على كل الأفكار التي يمكن لأشقائه في الجزائر أن يطرحوها!


وظني أن النخبة في البلدين، بمعناها الشامل الذي أشار إليه الوزير بن عيسى في محاضرته، لن تقع على أرض أخصب من الأرض التي هيأتها المبادرة الملكية المغربية، لتعمل من فوقها، فتمارس دوراً هو لها، ولا يمكن أن ينهض به غيرها!... إن أعداء البلدين هُم فقط الذين سيبذلون جهداً للتشويش على المبادرة، وعقلاء النخبة على الجانبين هُم وحدهم الذين عليهم أن يقطعوا على الأعداء هذا الطريق!

&