عبدالله بشارة& &

&عشنا أياماً غير عادية وسط أمطار سخية من رب العالمين، أمطار غير مسبوقة في كميتها، وغير مألوفة في تواصلها. وأعجبتني في هذه الظروف التي أدخلت الخليج في فزعة المياه تلك الهمة الخليجية الجماعية التي استنهضت طاقة كانت هادئة وإرادة كانت حائرة في حساباتها المستقبلية، وأعجبتني أيضاً الروح التضامنية التي عبرت عنها دول مجلس التعاون في عرض الرغبة في المساعدة لتجاوز الصعوبات التي عاشتها المنطقة في الأيام القليلة الماضية، وشعرت مع الآخرين الحريصين على عمق الرابطة الخليجية وتحصينها من الاسترخاء بأن العزم الجماعي في التضامن الخليجي ما زال متيناً في قواعده وقوياً في إمكاناته وواعياً لحقوق الشراكة وقادراً على تقديمها.


شاهدنا سرعة التعبئة الوطنية التي اتخذتها دول الخليج، كل منها معتمدة على امكاناتها وما توافر لها من عطاء معبر عن تكاتف جماعي وطني رسمي، من السلطة ومن الشعب يعكس متانة غريزة المساهمة التي سجلها تاريخ المنطقة في أزماتها، عندما تضيق الإمكانات.


لم ينحصر المطر في بقعة واحدة، وإنما، كما تابعنا تحركاته، وصل إلى معظم مناطق الجغرافيا الخليجية، رصدنا الترتيبات التي اتخذتها حكومة الكويت، وفيها أظهرت الحكومة قدرة بارزة لم أتوقعها في توظيف كل ما يمكن الاستفادة منه في هذه المعركة التي أتت بشكل غير متوقع في حجمها وفي طول بقائها.
فقد شخصت الحكومة على كل ما يمكن الاستفادة منه لوضعه في ترسانة المواجهة في ظروف ليست سهلة، لأن المنافذ السياسية والقنوات الاعلامية، ومن تجربة سابقة، لم تكن على قناعة بجاهزية الدولة لمواجهة مخاطر الفيضان، والسبب أن الناس اعتادوا على انعدامية التجهيز وارتجالية الخطوات.


كان سمو رئيس الوزراء الشيخ جابر المبارك متواجداً مع جميع وزرائه في اجتماعات طوارئ مست كل مسارات الدولة، في استعدادات مكثفة ومميزة بشموليتها، فوزير الصحة متيقظ، ووزير الدفاع متأهب، ووزير الأشغال جار في جميع المواقع مردداً انشغاله بإحساس المسؤولية السياسية التي لا ينفي دوره في تحملها، مع يقظة من الحرس الوطني، وتحفز من قطاعات رسمية وشعبية تريد الانخراط في حروب الأمطار التي دخلت رزنامة الخليج.
ولحسن الحظ فإن العمل الرسمي للدولة لم يتعطل وظل متابعاً ومشاركاً في برنامجه الاعتيادي في استقبال الضيوف وتكريمهم، ولم يعترض على الالتزامات التي تكفل بها قبل أن تتعرض المنطقة لهذه الأجواء الغريبة عليها.
شعرت مع غيري بأن الطاقة المؤثرة التي تملكها دول الخليج ما زالت على قوتها التي كنا تعايشنا معها قبل أزمة مجلس التعاون التي مر عليها عشرون شهراً، فهذا الحجم من المخزون ومن الحيوية ومن شعلات الحماس، كما لمسناه وعشناه، يصدر من وعي سياسي وأمني مرتفع، ويعبر عن إحساس عال بما يحيق بالمنطقة من تهديدات ومخاطر، وعلى دراية بالنزعة المغامراتية المتواجدة في دول الجوار، لا سيما مع الاجراءات الأميركية الأخيرة في فرض العقوبات على إيران، وهي كما يقول مسؤولو البيت الأبيض ستبقى إلى أن يتم تصويب المسار الإيراني السياسي الاقليمي والدولي.


يؤشر هذا الواقع إلى أن التوتر الحالي سيتصاعد، وأن المحاصرة تتجه نحو الاختناق الاقتصادي، وربما أكثر من ذلك، إذا ما استدعت الضرورات.
وفي مثل هذه الظروف الأمنية الحساسة، وفي هذا الفائض من الأزمات المهددة للسلامة الاقليمية، وفي هذا الصراع المتجدد مع الارهاب المتوحش على أرض الشام وشمال العراق والساعي للوصول إلى اليمن، وموانئ شرق أفريقيا، تلتقي دول مجلس التعاون مع مصر والأردن والولايات المتحدة لتشكيل ما يسمى حلف الناتو العربي، أهدافه دفاعية لصد الارهاب، وللحفاظ على الأمن والاستقرار، ليس في منطقة الخليج وإنما في كل الشرق الأوسط.
ومن هذا الوضع الذي غاب الانسجام فيه بين الأعضاء، يحق للمعلقين القادمين إلينا من أوروبا وآسيا طرح السؤال المنطقي، في ضرورة تجاوز التباعد الخليجي داخل مؤسسة مجلس التعاون، وردم الانشقاق من أجل استثمار الطاقة الخليجية، لكي يصبح هذا التجمع الاقليمي، الذي يضم الولايات المتحدة، مؤثراً وفعّالاً ومنطقياً ومنسجماً مع مرتكزات العمل الدفاعي الجماعي.
وأتصور أن الخبراء الاستراتيجيين في مجلس التعاون وواشنطن على قناعة بأن تعبئة الطاقة الخليجية الصافية تشكل الأولويات لكي يكون العمل مقنعاً ويكسب التخطيط المصداقية التي ما زالت غائبة عن هذا المحور الدفاعي.
لا جدوى لأي ترتيبات لا تأتي من القناعة الجماعية التي تحرك أعضاء هذا المحور وتؤمن استعدادهم الجماعي لتسخير كل الموجود في خزائنهم لأهداف هذا التجمع.
سيظل هذا المحور في حاجة ماسة إلى وحدة بين دول مجلس التعاون وتوافقها على سلة الأهداف التي تسعى للوصول إليها.


فمن الأسئلة التي نسمعها تتعلّق بالتدريبات ولقاءات القادة العسكريين ووحدة المنظور التي تجمعهم، مع تساؤلات عن حجم الانسجام بين الأولويات وبين الفرق العاملة.
خرجت من مسيرة مجلس التعاون مؤسسة صلبة بمصداقية عالية ومؤازرة شعبية ومكانة استثنائية في الفضاء العالمي، ودور متمكن في المنظمات المتخصصة، حيث تواجدت هذه المؤسسة في معظم برامج التنمية في الدول النامية، وصارت مكاناً للرجاحة السياسية، والسخاء الانساني ورساخة الأمن والاستقرار، حاملة مفاتيح الحلول للخلافات الثنائية والجماعية بين أعضاء الأسرة العالمية.
ورغم الأحزان تبقى أبواب الأمل في انبعاث المجلس مجدداً من مخزون طاقته التي تميز بها والتي ستضع التحالف الجديد على جادة الواقعية والمصداقية.
جاءت تجربة الخليج مع معارك الأمطار تأكيداً لضرورات العمل الجماعي في ولادة جديدة لمسيرة المجلس، من دونها يبقى الخليج قلقاً.

&