&محمد العربي هروشي

&

إن كان من فائدة للحربين العالميتين على أوروبا فهي أخذ الدروس والعبر من الدمار والمآسي، التي خلفتاها وراء دخانهما، فكان أن وقفت أوروبا على قدم وساق لبناء الذات، وقد توج ذلك باتفاقية روما لانبثاق السوق الأوروبية المشتركة، وبعد سقوط جدار برلين انفتحت شهوات الدول الأوروبية الشرقية للانضمام إلى هذا التكتل، الذي أضحى مغريا على كافة الأصعدة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية...

ستعرف سنة 1996 معاهدة ماستريخت، التي على أسسها سينبني الاتحاد الأوروبي، الذي تصل اليوم عضويته إلى 28 دولة، كان آخرها انضمام أوكرانيا سنة 2013. ويقوم هذا التحالف على مبدأ: نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، حسب منح كل دولة على حدة مقدار الصلاحيات المخولة لها، لذلك فالاتحاد الأوروبي لا يشكل اتحادا فدراليا.

يتمتع الاتحاد الأوروبي بسياسة زراعية مشتركة وصيد بحري موحد، وله مؤسسات تقوم عليها سياسته الدولية في إطار العلاقات الدولية، من بينها المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، الذي يحسم في القضايا الكبرى مثل "البريكست"، حيث تمت يوم 25 نونبر الجاري المصادقة السياسية على مغادرة عضو من أعضائه على قدر كبير من الأهمية، المملكة المتحدة.

لقد خيم الحزن على بروكسيل والأعضاء الـ27 وهم يشاهدون خروج الإنجليز من المنظومة الأوروبية بكل ما يشكلونه من ثقل ديبلوماسي على المستوى الدولي، فإنكلترا هي العضو الدائم الثاني في مجلس الأمن والقوة العسكرية العظمى في حلف "الناتو"، ناهيكم عن قوتها الاقتصادية والصناعية. لقد وصفت قادات دول الاتحاد الأوروبي الحدث بالخسارة العظمى غير القابلة للتعويض. وقد لاحظنا كيف حملت تصريحات رئيس المجلس الأوروبي نبرة كئيبة، كما اعترى العبوس الجميع.

وتجدر الإشارة إلى أن الخروج الفعلي والنهائي يبقى إلى غاية مارس 2019، كما أنه بعد التصويت السياسي على القرار من طرف القادة، يبقى تصويت البرلمان البريطاني هو الحاسم النهائي ليحال ما سيسفر عنه التصويت على البرلمان الأوروبي قصد التصديق عليه. وبذلك تنتهي مرحلة تاريخية مفصلية من عمر الاتحاد الأوروبي، ولربما ستكون للأمر تداعيات، إذ قد نشاهد أعضاء آخرين يخرجون أفواجا، فهل سيكون "البريكست" عنوانا لبداية انهيار البيت الأوروبي، خصوصا أن الرئيس الفرنسي ماكرون وجه دعوة إلى الأوروبيين بإعادة النظر في هذا الإطار؟

البلد الثاني الذي تأثر مباشرة بـ"البريكست" هو إسبانيا، التي لها مشكل ترابي مع المملكة المتحدة في منطقة جبل طارق، وقد عرفت الأيام القليلة الماضية مشاحنات داخلية بين الحكومة الإسبانية وغريمها في المعارضة، الحزب الشعبي، الذي اعتبر المصادقة السياسية على "البريكست" مغامرة ما لم تضمن حقوق الإسبان الترابية والسيادية على الصخرة. وقد توجه بابلو كسادو، رئيس الحزب الشعبي، إلى بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية، قائلا إن هذا التوقيع غير ملزم لبريطانيا من الناحية القانونية، وبالتالي فهو مجرد كتابة على ورق مبلل، على حد تعبيره.

لا شك أن المعركة السياسية بين الحزبين سيزداد أوارها، خصوصا أن الحزب الشعبي يدعو إلى انتخابات سابقة لأوانها.

من جانبه، يؤكد رئيس الحكومة الإسبانية أن لا حل في الموضوع سوى الاتفاق الذي صوتت عليه إسبانيا بعد أن تلقت الدعم الكامل من باقي دول الاتحاد، حيث بعد مرور الرحلة الانتقالية سيكون التفاوض حول ملف جبل طارق في شموليته. ويبدو أن رئيس الحكومة الإسبانية يدرك الصعوبات وتعقيدات الملف، خصوصا أن المطلب ليس حكوميا، وإنما سياديا، أي مطب الدولة الإسبانية بكل تشكلاتها. وإذا علمنا أن 96 بالمائة من سكان الصخرة متشبثون بالبقاء ضمن الكيان الأوروبي، مع تعلقهم بهويتهم البريطانية، سنعلم مدى تعقد الإشكال. لذلك، فإن الأمور ستبقى على المستوى الحدودي كما كانت عليه، مراعاة لهذه الخصوصية.

عود على بدء، هل سيكون خروج بريطانيا إيذانا بمرحلة انهيار البيت الأوروبي؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.