& ســامح فــوزى

&

نظم عدد من الهيئات هى مركز جامعة الدول العربية فى تونس، ومكتبة الإسكندرية، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) مؤتمرا حول التنوع الثقافى بالوطن العربى فى مستقبل الأمة ومنزلتها الإنسانية، ويؤكد العنوان ما سبق أن ذهب إليه العديد من المثقفين منذ عقود من رؤية التنوع ركنا أساسيا فى مستقبل المنطقة العربية، ولاسيما بعدما ظهر جليا أن الإرهاب يستهدف تنوع هذه المنطقة، ويحولها إلى بقعة كئيبة من العالم، وهى التى عرفت منذ مهدها كل صور التنوع اللغوى والدينى والمذهبى والاثنى والثقافى. فى السابق كان هناك من يعتبر طرح قضية التنوع، خاصة من أصحاب الاتجاهات القومية والإسلامية مدعاة لإثارة النعرات الضيقة، وبذر بذور الشقاق فى الجسد الواحد، الى آخر هذه التصورات التى تنظر إلى التنوع باعتباره إشكالية أكثر منه ميزة. هذه النظرة لم تعد قائمة، أو على أحسن تعبير لا تجد من يجاهر بها، وتحولت دفة الحديث إلى اعتبار التنوع شأنه شأن الديمقراطية، والحكم الرشيد، والتنمية، والنمو الاقتصادى، والعدالة الثقافية، وإصلاح الفكر الدينى من المفاهيم الأساسية لمستقبل المجتمعات العربية.

&ضم المؤتمر الذى استضافته العاصمة التونسية على مدار يومين عددا من المثقفين العرب، وناقش قضايا تجمع بين الطرح النظرى حول مفهوم التنوع، والحالات الدراسية من مختلف الأقطار العربية، وأثار نقاطا مهمة تتصل بمفهوم التحديث الثقافى فى المنطقة بأسرها. فالحديث عن التنوع لن يكون إلا من خلال مناقشة الوعى المأزوم، وإشكالية الذهنية العربية التى ترزح تحت وطأة المحرمات، ولا تمارس إبداعا حقيقيا، أو فكرا نقديا يتجاوز الشعارات، بحيث تدرك دور التنوع الخلاق فى تطوير الإبداع، وإثراء الثقافة العربية من خلال الاختلاف والتعددية البناءة. وقد أطلق الدكتور فتحى التركى أستاذ الفلسفة التونسى على ذلك مصطلح لذة الالتقاء، تعبيرا عن الانفتاح على الآخر، والعيش معا، والمؤانسة، والاستعداد للتحلى بهوية جديدة تقوم على تواصل الثقافات، والتعقل، وإضفاء طابع انسانى على الحياة. وطرح الدكتور التركى عددا من الملاحظات النقدية - فى محاضرته الافتتاحية- عن تحول الصراع الاجتماعى مع الآخر المغتصب (خبرة الاحتلال الأجنبي) إلى الذات المنقسمة (الصراعات الدينية والمذهبية والاثنية)، مشيرا إلى تعدد أشكال العنف المادى والرمزى التى تمارس داخل المجتمعات العربية فى مواجهة الجماعات المتعددة، وأهمية الهوية الوطنية الجامعة.

واقع الحال أن التنوع فى تقديري- هو معطى ثقافى واجتماعى، يتطلب رعاية وإدارة ايجابية، لأن التنوع الانسانى، ثقافيا واجتماعيا، يحتاج إلى إدارة ايجابية تخلق المشتركات بين المواطنين، عوضا عن الإدارة الرديئة التى تعلى من شأن الاحقاد والانقسامات، وتعطى أفضلية لمواطنين على غيرهم لأسباب تتصل بالاختلاف اللغوى أو النوعى أو الدينى أو المذهبى أو الجغرافى أو الطبقى، الخ.

يصعب أن نفصل بين الإدارة الايجابية للتنوع وبين التنمية بمعناها الشامل. إذا كانت ادارة التنوع تقوم على ايجاد مساحة مشتركة من الصالح العام للمواطنين بصرف النظر عن الاختلافات بينهم، فإن التنمية تساعد على ايجاد هذه المشتركات الحياتية التى تجمع كل المواطنين حول مصالح مشتركة. وهناك خماسية تنموية تحتاج إليها المجتمعات العربية، خاصة فى ضوء ما حدث فيها منذ عام 2010 إلى الآن، هى المشاركة، التنمية الذاتية، رد الاعتبار إلى اللا مركزية، إذكاء المساءلة والشفافية، واخيرا العدالة الثقافية. وترتبط هذه المفاهيم الخمسة فيما بينها ارتباطا يبدو شرطيا فى بعض الأحيان. إذ تُخرج المشاركة المواطن من دائرة التهميش، وتضعه فى قلب احتياجات المجتمع الذى بات بحاجة إلى تنمية ذاتية تطلق طاقات المواطنين، وتساعدهم على تحديد أولوياتهم، وتؤهلهم لامتلاك المبادرات التنموية فى مجتمعاتهم، وهى مسألة يصعب تحقيقها دون ايجاد صيغ من اللا مركزية تساعد كل مجتمع محلى على إطلاق طاقاته، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعى الخاصة به، والإبداع فى التصدى لمشكلاته. ويتطلب العمل بجدية من جانب المواطنين على المستوى المحلى تمكينهم ليس فقط من اقتراح والمشاركة فى تنفيذ برامج تنموية ولكن أيضا مراقبة ومساءلة العمل، ونشر جميع الجوانب المتعلقة به بشفافية كاملة. وإذا كانت هذه المفاهيم الأربعة- المشاركة، التنمية الذاتية، اللا مركزية، المساءلة والشفافية- فى حالة ترابط وتداخل واعتماد متبادل، فإنها جميعا تحتاج إلى خطاب ثقافى ناهض، وعدالة ثقافية لا تجعل العاصمة أو المدن الكبرى تستأثر وحدها بالخدمات الثقافية المحدودة، بل تتيح طاقات التنوير والمعرفة فى المجتمعات المحلية التى يعتصرها الجهل، وضعف الخدمات.

التعددية - مفهوم مهم لمستقبل الأمة، وهو بحاجة إلى إدارة رشيدة، وصيانة دائمة من جانب الدولة فى المقام الأول، ثم تأتى بعدها كل المؤسسات العامة والأهلية على السواء.