& &السيد ولد أباه

أعلن في أبوظبي عن زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات في شهر فبراير القادم بدعوة من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، تتويجاً لجهود إماراتية كبرى لبناء علاقات الود والتفاهم بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى وبصفة خاصة الديانة المسيحية في مكونها الأساسي الكاثوليكي، واعترافاً لهذه الشخصية الروحية المتميزة بإنجازاتها الملموسة في توطيد الحوار والتعايش مع المسلمين وفي العمل الإنساني على الصعيد الدولي. ليس بالمستغرب على دولة الإمارات هذا الإنجاز المهم في بلد أطلق عليه العلامة الشيخ عبد الله بن بية رئيس منتدى السلم الذي عقد الأسبوع الماضي دورته الخامسة تسمية «بلاد السماحة والتسامح». السماحة تحيل إلى قيم الضيافة، والتسامح مقولة تحيل إلى قبول الاختلاف والتنوع، وهما مفهومان مركزيان استأثرا باهتمام مئات المفكرين ورجال الدين والعلماء الذين شاركوا في المؤتمر الأخير لمنتدى السلم الذي طرح شعار «تجديد حلف الفضول خدمةً للسلم العالمي» تيمناً بالحلف الذي شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ونوّه به بعدها.


ما ظهر واضحاً من الأدبيات النظرية التي طورها المنتدى في السنوات الخمس المنصرمة هو ضرورة تجاوز الفهم الأدنى للتسامح الذي لا يتجاوز مفهوم التعايش السلمي المقنن إلى مفهوم التضامن والتحالف المبني على القيم الإنسانية المشتركة التي كرسها التقليد التوحيدي الإبراهيمي الذي هو الجذر المشترك للديانات الثلاث الكونية الكبرى في العالم. بدأت هذه المراجعات النظرية العميقة من إعلان مراكش الذي صدر عن المنتدى قبل ثلاث سنوات، وكان في مرجعيته المؤسسة استلهاماً لـ«صحيفة المدينة»، التي هي أول دستور ينظم التعايش بين سكان المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية، وقد أظهر الشيخ «بن بية» بجلاء أن هذه الوثيقة المرجعية تسمح بتأصيل مفهوم إسلامي قوي للمواطنة في دلالتها الحديثة القائمة على مبادئ التنوع والحرية والتضامن وحفظ الحقوق والواجبات المتساوية المشتركة.
هذا التصور هو الذي سمح بالوصول إلى مفهوم المواطنة الشاملة الذي تتبناه دولة الإمارات وتدافع عنه في مواجهة المقاربات الخطيرة التي تستهدف تدمير الكيانات الوطنية في المنطقة وتفكيك نسيجها الأهلي بتأجيج الصراعات الدينية والطائفية والإثنية. فمن الجلي أن مفهوم المواطنة الشاملة هو الضمانة الحقيقية لسلم المجتمعات والدول، وهو مفهوم له مرتكزان أساسيان يحتاجان اليوم إلى التأصيل والتثبيت: المرتكز الأول هو تأكيد أولوية الهوية الإنسانية الحرة والمفتوحة على أنماط الانتماءات العضوية التي تبدو طبيعية في حين أنها تكرس الخصوصية المنغلقة وتحرم الإنسان من حقوقه في بناء شخصيته المستقلة في مقابل السلط التي تفرض عليه الانخراط في القوالب الطائفية أو العرقية الضيقة.&


وأما المرتكز الثاني فهو الانتماء لجسم اجتماعي متعاضد ومتضامن يعبر عن نفسه بالولاء للدولة من حيث هي التعبير عن هذه الرابطة الجماعية المشتركة، التي لا يمكن أن تتأسس إلا على قيم كونية إنسانية. أن التحدي الكبير الذي يطرحه «حلف الفضول الجديد» الذي انطلق من أبوظبي هو إرجاع الدين التوحيدي إلى رسالته الأصلية التي هي رسالة السلام والتسامح، وبناء شبكة قوية من رجال الدين من مختلف الملل للإسهام في حل نزاعات وصراعات العالم التي من أهم أسبابها التعصب الديني والتطرف الراديكالي الذي يتلبس لبوساً دينياً زائفاً.
لقد توقفت في ورقتي المقدمة للمؤتمر على المعاني التي تحيل إليها الضيافة (السماحة) في ما وراء قيم المواطنة المتساوية (التسامح) مبيناً أن هذا المفهوم الذي نال اهتماماً فلسفياً واسعاً في الفكرين اليهودي والمسيحي المعاصرين لا بد من استكشافه واستثماره إسلامياً من حيث هو قيمة مركزية قوية في التقليد العربي الإسلامي.&


الضيافة من حيث هي تجربة غير محدودة ولا متناهية لاستقبال الغريب دون شروط وخارج كل القيود المؤسسية والقانونية التي حصنها المنظور السيادي للدولة الوطنية هي من الإرث الإبراهيمي العميق، وهي مفهوم يؤسس للمسؤولية الأخلاقية الأصلية تجاه الآخر قبل وفي ما وراء أي معايير سلوكية متبادلة. أنها مفهوم عقدي عميق يحيل إلى علاقة الله بمخلوقاته التي أساسها الرحمة والود وإلى جوهر الرسالة التي هي رحمة للعالمين، ومن هنا فهي مناط الصلة الأخلاقية الثابتة بين البشر في ما وراء اختلاف ضروب انتماءاتهم وهوياتهم.&
هذا التوتر الثري بين حقوق المواطنة الشاملة ضمن النسق السيادي للدولة وفسحة الضيافة اللامشروطة التي أصبحت اليوم من متطلبات السلم العالمي في مواجهة أوسع حركة للهجرة القسرية واللجوء في تاريخ البشرية، ما يفتح الباب مجدداً لرسالة الدين في أبعادها الإنسانية الرحبة التي طمستها الأصوليات الراديكالية العنيفة.

&