& سليمان جودة

&

كثير من الكلام سوف يطالعه القارئ هذا الشهر عن الرئيس أنور السادات، ليس فقط لأن ذكرى يوم مولده توافق الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)، فلقد سبقنا هو احتفالاً بذكرى ميلاده في حياته، عندما كان يرتدي الجلباب البلدي والعباءة الفضية من فوقه، كلما حل هذا اليوم من كل عام، وكان يطلب رئيسة التلفزيون وقتها السيدة همت مصطفى، فتجلس بين يديه، والميكروفون بينهما، وينخرط هو في توجيه حديث طويل بطريقته المثيرة الشهيرة إلى المصريين، وكان الحديث يجري بثه من بيته في قريته ميت أبو الكوم، التي تقع في محافظة المنوفية شمال القاهرة! كان يفعل ذلك بانتظام؛ خصوصاً في السنوات التالية لنصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973 الذي تحقق على يديه، ولمبادرة السلام التي قام بها إلى إسرائيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، ولا أحد يعرف ما الذي كان سيفعله هذه السنة، لو أن الله مدّ له في العمر وفي الحكم! فالثلاثاء بعد القادم هو ذكرى مرور مائة عام كاملة على مولد الرجل!
وأظن أن تجربة السجن في حياته كفيلة بإلقاء الضوء الكافي، على أكثر من جانب من جوانب شخصيته الغنية. فلقد قضى السادات عدة سنوات في السجن انتهت في أغسطس (آب) 1948. وقد انقسمت سنوات وجوده وراء الأسوار إلى فترتين؛ واحدة قضاها متنقلاً بين سجن الأجانب في العاصمة، ومعتقل في المنيا، في الصعيد جنوب مصر، ومعتقل الزيتون في القاهرة، وكانت التهمة هي العمل ضد الإنجليز! وفترة أخرى قضاها في سجن قره ميدان في قلعة قاهرة المعز، وكانت التهمة هذه المرة هي الاشتراك في قتل أمين عثمان، وزير المالية في حكومة الوفد، التي كان النحاس باشا على رأسها، بدءاً من 4 فبراير (شباط) 1942!


ولا سبيل إلى التعرف على تأثير تجربة السجن عليه في شبابه، ثم على حياته كلها لاحقاً، إلا بالاستماع إليه شخصياً، وإلا بالأخذ عنه هو على نحو مباشر، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بالعودة إلى كتاب سيرة حياته الأشهر، الذي كان قد صدر في القاهرة عام 1977، بقلمه، وفي حياته، وتُرجم فور صدوره إلى 13 لغة، وكان تحت هذا العنوان «البحث عن الذات»!
ففيه فصلان كاملان عن الفترتين؛ أولهما هو الفصل الثاني من الكتاب، ويتحدث كله عن تجربة الاعتقال في سجن الأجانب، ومعتقل المنيا، ومعتقل الزيتون. وثانيهما هو الثالث، ويتعرض بكامله لتجربة السجن في القلعة، التي كان فيها المتهم السابع من بين 27 متهماً، وقد حصل في النهاية على البراءة أمام القضاء، رغم اعترافه في كتاب سيرته الذاتية بأنه هو مَنْ خطط للعملية، وهو مَنْ اتفق مع حسين توفيق على إطلاق الرصاص على أمين عثمان في شارع عدلي وسط القاهرة، وهو مَنْ أعطاه قنبلتين يدويتين ألقى إحداهما على حشود المواطنين التي راحت تطارده في محيط تنفيذ العملية! فلم يكن هناك دليل عليه!
وهو يعترف بصراحة كاملة في مطلع أحد الفصلين، بأن تجربته هذه قد علمته أن مكانين اثنين لا يستطيع فيهما الإنسان أن يهرب من ذاته مهما حاول، إنهما: الحرب، والسجن!
وقد مر بالتجربتين كما لم يمر بهما أي ضابط آخر من بين 11 ضابطاً كانوا معه في مجلس قيادة الثورة، وكانوا هُم الذين أنهوا حكم أسرة محمد علي في الثالث والعشرين من يوليو (تموز) 1952، بعد قرن ونصف قرن من الزمان، كان أفرادها يتناوبون على قصر الحكم في مصر، ابتداء من محمد علي باشا، وانتهاءً بالملك أحمد فؤاد الثاني الذي لا يزال حياً يرزق إلى اليوم!
وفي المعتقل، أو في السجن، عرف السادات كيف يتحرر من ذاته، وكيف يكبح جماحها لديه، وكيف يتخلص من مطالبها عنده، مطلباً من وراء مطلب، فلا يكون عبداً لها، ولا يعيش أسيراً في نطاقها، ولا يبقى دائراً في فلكها، مهما كانت إغراءات الدوران في مثل هذا الفلك!
وقد بدأ طريقه إلى رئاسة الجمهورية، من عند التحرر من الذات. من عند هذه النقطة تحديداً. إنه يشير إلى ذلك عند الحديث عن سر بقائه وحده إلى جوار عبد الناصر 18 عاماً بالكامل، وهو الأمر الذي لم يحدث مع باقي أعضاء مجلس قيادة الثورة دون استثناء، فجميعهم سقطوا، أو تساقطوا، على طول الطريق من 1952 إلى 1970، إلا أنور السادات! فما السر؟!


لقد حدث ذات يوم، أن تساءل كاتب في صحيفة إنجليزية، عن السر في بقاء السادات بمفرده إلى جانب عبد الناصر، بغير الدخول في صراع معه من أي نوع، وكان تقدير ذلك الكاتب أن وراء مثل هذه الحالة تفسيراً من بين تفسيرين؛ إما أن السادات كان رجلاً بلا قيمة، ولهذا لم يدخل في صراع مع الرجل الأول، وإما أنه كان شديد المكر، فعرف كيف يتحاشى أن يكون طرفاً في صراع من أي نوع!
وفي سياق البحث عن ذاته، في سيرته الذاتية، قال السادات إنه ليس صحيحاً بالمرة أنه كان بلا قيمة، أو أنه كان مهمشاً طوال سنوات عبد الناصر، فلقد كان عضواً في مجلس قيادة الثورة، وكان رئيساً لتحرير جريدة «الجمهورية»، وكان سكرتيراً للمؤتمر الإسلامي، وكان وكيلاً لمجلس الأمة، الذي كان يمثل السلطة التشريعية في ذلك الوقت، ثم كان رئيساً للمجلس نفسه، فأين التهميش إذنْ، وأين انعدام القيمة؟!
وفي المقابل، فإن حكاية المكر لا تصلح لتفسير الموضوع، ولكن يصلح لتفسيره أن صاحب «البحث عن الذات» لم يكن ينازع عبد الناصر في شيء، ولم يكن ينافسه في شيء، ولا كان يتطلع إلى تحقيق شيء لنفسه. كان متحرراً من هذا كله. وكانت تجربة السجن قد علمته التحرر من الذات!
ولهذا، كان هو فقط الذي بقي إلى جانب عبد الناصر إلى لحظة موته، من بين جميع أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولم يكن قد بقي واحداً عادياً من آحاد الناس، ولكنه كان قد صار نائباً لرئيس الجمهورية؛ بل كان النائب الوحيد يوم مات الرئيس ناصر!
ولم يكن هناك تفسير سوى التحرر من الذات، ولم يكن أحد من باقي أعضاء مجلس القيادة قد مر بالتجربة التي مر بها السادات، متنقلاً بين مقرات ثلاثة لسجن الأجانب، وبين سجن قره ميدان!


ولم يكن هذا هو الأثر الوحيد للتجربة على حياته كلها إلى يوم اغتياله، عبر مشهد غاية في الدراما، وقع على مشهد من الدنيا في السادس من أكتوبر عام 1981، فلقد كان هناك أثر آخر أهم، وأشمل، وأعمق، على طول الطريق. إن علاقة السادات بقريته ميت أبو الكوم بعد السجن، ليست هي أبداً علاقته بها قبل السجن. ففي الزنزانة 54 في سجن القلعة، تنبه للمرة الأولى إلى حنين جارف في داخله كان يشده إلى بيته في القرية، ربما لأنه تنبه أيضاً إلى أنه لا عمل له يعود إليه بعد الإفراج، فلقد كانوا قد فصلوه من الجيش، ولذلك، فالمكان الوحيد الجاهز لاستقباله عند خروجه هو قريته، وهو بيته في قريته، وهو مساحة يملكها من الأرض تصل إلى فدانين في القرية. هناك كان يحس دائماً بأنه يملك الدنيا كلها، وكان يشعر بأمان لا يجده في المدينة، وكان يحس باطمئنان لا يعثر عليه في أي مكان آخر!
وهذا ربما هو الذي يفسر وجوده خارج القاهرة لفترات طويلة، بعد أن صار رئيساً، فرغم أن بيته في الجيزة كان جميلاً، وكان يطل على النهر الخالد، وكان محاطاً بالنخيل والأشجار، وكان تحفة معمارية وفنية عالية، ولا يزال كذلك في مكانه، إلا أن السادات كان يفضل بيت ميت أبو الكوم الريفي عليه. فإذا كان لا بد من الوجود في العاصمة، فليكن في مكان قريب منها، هو استراحة الرئاسة في القناطر الخيرية؛ حيث أجواء الريف تحيط بها من كل اتجاه!
وكان هذا نوعاً مضافاً من التحرر من الذات!

&