& هالة مصطفى

&

عندما وضع عالم السياسة الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما نظريته حول «نهاية التاريخ» فى أعقاب الحرب الباردة وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفيتى, افترض انتصارا نهائيا للرأسمالية بجناحيها الليبرالى والديمقراطى, وأنها ستصبح النظام الأوحد الذى ستتبناه جميع دول العالم, ولكن بعد سنوات على تلك النظرية, مازالت الديمقراطية الليبرالية عصية على التحقق فى معظم المجتمعات غير الغربية إن لم تكن غائبة تماما, والأخطر أن النظام الرأسمالى ذاته, منبع تلك الفرضية, بدا مأزوما فى موطنه الأصلى أى أوروبا, وهذا ما تثبته أحداث فرنسا التى تشهد أضخم وأعنف موجة احتجاجات لم تعرف مثلها منذ عقود, سميت بحركة «السترات الصفراء» رمزا لاندلاعها بعد قرار الحكومة رفع أسعار الوقود, ولكن الأمر لم ولن يقف عند هذا الحد, فتعليق الدولة قرارها لمدة ستة أشهر وإعلانها الاستعداد لفتح نقاش حول بعض مطالب المحتجين واستعانتها بالأحزاب والنقابات للدعوة إلى احتواء الأزمة, لم تفلح فى تهدئة الشارع الفرنسى ولا فى التخفيف من حدة المظاهرات التى اجتاحت باريس, فى غضب عارم ينذر بالتصعيد, حتى وإن نجحت بعض الحلول الأمنية فى التصدى الجزئى له, فسيظل كالنار تحت الرماد, فهل تكون هذه الدولة العريقة على أعتاب ثورة جديدة, وما هى طبيعتها, وإلى أين ستقودها؟

&على الرغم من الصدمة التى سببتها تلك الأحداث بحكم عنفها وحدتها وكونها تقع فى عاصمة النور, فإن الحقائق التاريخية تشير إلى أن لفرنسا باعا طويلا مع الثورات, فهى صاحبة أهم ثورة فى التاريخ الانسانى حولت شعارها فى الحرية والإخاء والمساواة إلى واقع غيرت به وجه أوروبا والعالم, وكرست لأفكار التنوير والعقلانية والحريات المدنية وحقوق الإنسان, والتى باتت جزءا لا يتجزأ من تطلعات كل شعوب الأرض, وصيغ على مبادئها الميثاق العالمى للأمم المتحدة, فأصبح عام ثورتها (1789) عاما فارقا يفصل بين ما قبله وما بعده, وهى أيضا التى قادت أهم ثورة جيلية فى الستينيات وهى ثورة الطلبة مايو 1968 لتتخذ منحى ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وتحرريا فى العموم, شارك فيها كبار مثقفيها وفلاسفتها وفى مقدمتهم جان بول سارتر, وكما هى عادتها, فقد تجاوز تأثير ثورتها حدودها الجغرافية, ولكن فى الحالتين كان العنف هو العنوان وإن اختلفت درجته ومداه, فيخطئ من يتصور أن المعارك الفكرية هى بالضرورة سلمية فى الأساس.

اليوم يتكرر المشهد, فقط الهدف هو الذى تبدل, حيث كان تغيير الأوضاع القائمة بصورة جذرية هو الهدف فى السابق, أما فى المرحلة الراهنة فالإبقاء عليها أصبح هو المطلب الرئيسى, وتتلخص تلك الأوضاع فى المكتسبات التاريخية التى حصلت عليها الفئات العريضة من الشعب الفرنسى وفى القلب منها الشرائح المختلفة للطبقة الوسطى, هذه الطبقة التى إما أن تكون صمام الأمان لأى مجتمع أو على العكس سبب اضطراباته وعدم استقراره.

لم يأت الرئيس الحالى إيمانويل ماكرون, الذى اعتبر وجها جديدا فى السياسة, كزعيم يتمتع بقاعدة حزبية وجماهيرية عريضة فلم يكن قد مضى على حزبه «إلى الأمام» إلا عام واحد, وإنما كان أقرب إلى المرشح الرئاسى التوافقى الذى اختارته أحزاب الوسط واليسار ليقطع الطريق على أحزاب اليمين المتطرف التى يتزعمها حزب مارى لوبين والتى خاضت الانتخابات ضده, وربما اختير أيضا لخبرته وخلفيته الاقتصادية فى مسعى للخروج من أزمة الاقتصاد المزمنة, وهى أزمة لا تختلف كثيرا عما تعانيه أغلب اقتصاديات العالم, اقتصاد يحتل المرتبة السادسة على مستوى العالم والثالثة على المستوى الأوروبى, ولكنه يعانى نقصا فى ناتج دخله القومى وارتفاع فى نسبة الدين وعجزا فى الإنفاق العام, كما تبلغ نسبة البطالة ما يزيد على الـ10% أغلبها من الشباب, وبالتالى لا يقوى على المنافسة العالمية فى ظل قوانين العولمة أو حتى داخل الاتحاد الأوروبى, ومن هنا كان الحل السريع الذى لجأ إليه الرئيس الفرنسى وهو خفض النفقات الحكومية على برامج الرعاية الاجتماعية واتخاذ إجراءات تقشفية أدت إلى رفع أسعار السلع الأساسية, وزادت من قيمة الضرائب, فضلا عن تعديل قوانين العمل لتقليل عدد موظفى الجهاز البيروقراطى للدولة والتشجيع على المعاش المبكر فى ظل تدنى الأجور والمعاشات, والتصريح بامكان استقدام العمالة الرخيصة من المهاجرين, مقابل إجراءات مضادة لتحفيز الاستثمار وزيادة الدخل العام من خلال خفض الضرائب على رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى, الذين كانوا عونا له فى صعوده السياسى ويسيطرون على معظم وسائل الاعلام, لذلك لُقب بـ«رئيس الأغنياء».

اعتقد ماكرون أنه الأكثر مقدرة وحسما من سابقيه, بدءأ من شيراك مرورا بساركوزى وانتهاء بأولاند, فى تطبيق برنامجه الإصلاحى, الذى أحجم هؤلاء عنه خشية نتائجه المجتمعية وآثاره السياسية, ولكن جاءت النتيجة مخيبة للآمال والتوقعات, إذ وضعته فى مأزق حقيقى بعد أن تعالت أصوات المحتجين مطالبة باستقالته وحل البرلمان, فالاقتصاد فى النهاية لا يُحسب بلغة الأرقام وحدها لأنه يمس حياة المواطنين مباشرة وأحوالهم المعيشية اليومية.

قد يرى الاقتصاديون أن تشخيص الأزمة وحلها من الأمور المعتادة المتفق عليها, والتى يجب أن تجتازها الشعوب من أجل عافية الاقتصاد وصحته, ولكن ما يغيب عن هذه الرؤية أنها لا تأخذ فى الاعتبار انجرافها ناحية اليمين المطلق, وليس هذا هو حال الرأسمالية الليبرالية أو ذات البعد الاجتماعى، التى ترسخت فى أعتى الدول المتقدمة ذات الاقتصاد الحر وعلى رأسها فرنسا, فتلك الرأسمالية اعتمدت منذ زمن طويل مفهوم دولة «الرفاه الاجتماعى», حيث تقع على الدولة مسئولية توفير سبل الضمان الاجتماعى وبرامج الرعاية فى التعليم والصحة والخدمات العامة وإعانة للبطالة, وأن هذا الحل التاريخى الذى أخذ ببعض الأفكار الاشتراكية فى العدالة الاجتماعية, جاء إنقاذا للنظم الرأسمالية من الوقوع فى براثن الشيوعية, بعد أزمة الكساد العالمى التى عانى منها الغرب بأكمله أوائل ثلاثينيات القرن الماضى, وأصبح حقيقة لا يمكن الرجوع فيها, لذلك لا يمكن النظر إلى حركة السترات الصفراء إلا كحركة احتجاج مدنية واسعة للطبقة الوسطى حفاظا على هذه المكتسبات, فهى ليست حركة أيديولوجية ولا حزبية, حتى وإن سعت بعض الأحزاب للاستفادة منها سواء المنتمية إلى اليسار الراديكالى بعدائها التقليدى للرأسمالية, أو اليمين العنصرى الذى يلعب على وتر الخوف من المهاجرين ومزاحمتهم الفرنسيين فى فرص العمل. باختصار إنها حركة مجتمعية بامتياز وهو ما يزيد من خطورتها ويجعل قمعها أمرا صعبا, وكأن فرنسا تقول إن التاريخ الذى تحدث فوكوياما عن نهايته, مازالت له فصول لم تكتمل بعد.