طلال صالح بنان

من أهم مخرجات النظرية السياسية الليبرالية صيغة الفصل بين السلطات. في النظرية والممارسة الديمقراطية، وأنه لا يمكن تصور السلطة السياسية ولا حتى توقع سلوكها وحركتها، وكأنها كيان سياسي متماسك ومتجانس، في مواجهة القيام بمسؤولياتها. حتى تتم الإطاحة بهالة «القدسية السياسية»، التي كانت تشكل عَصب الشرعية السياسية لبعض أنظمة الحكم التقليدية، كان من الضروري النظر نظرة شك وريبة لمؤسسات السلطة السياسية ورموزها في الغرب، حتى تتم السيطرة على حركتها.. وضمان عدم جنوحها للاستبداد.

لذا كان الهدف: إيجاد حكومة ضعيفة، في مواجهة حقوق وحريات المواطنين، وذلك لا يتم إلا بتفتيت أو تشتيت مؤسسات السلطة ورموزها، لكي ينشغلوا في حركة الصراع السياسي في ما بينهم، بعيداً عن الإضرار بحقوق المواطنين وحرياتهم... ويبقى، في كل الأحوال، مصير مؤسسات السلطة ورموزها في قبضة الإرادة العامة للناس.

إلا أن الجدل بزعم أن صيغة الفصل بين السلطات تشكل اقتساماً حاسماً لما يُطلق عليه، مجازاً: «كعكة» السلطة السياسية في المجتمع، هو قولٌ في الكثير من «الرومانسية» السياسية، تقترب كثيراً، من «أساطير» الخيال العلمي. صحيح أن صيغة الفصل بين السلطات تحدد نصيب كل مؤسسة سياسية في النظام السياسي في موارد السلطة السياسية في المجتمع، إلا أنها -في نفس الوقت- لا ترسم حدوداً قاطعة بين سلطات وصلاحيات كل سلطة تجاه السلطات الأخرى. ربما يكون هذا مقصوداً لتحقيق غاية إلهاء وانشغال السلطات ببعضها البعض، بعيداً عن تطور أي شكل من أشكال النزوع إلى إساءة استخدام السلطة، ومن ثَمّ، استبدادها.

هناك مناطق رمادية تفصل بين حدود سلطات وصلاحيات مؤسسات الحكم، في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، تشكل حلبة صراع محتدم على النفوذ بينها، كثيراً ما تزيدها نصوص الدستور غموضاً وإبهاماً. في النظام الرئاسي، وحتى في النظام البرلماني، تُعد السياسة الخارجية للدولة من اختصاصات السلطة التنفيذية، إلا أن قضية السياسة الخارجية، في حقيقة الأمر، أكثر تعقيداً، مما يبدو من حسم ملفها دستورياً، لصالح السلطة التنفيذية.

في النظام السياسي الأمريكي، مثلاً: ملف السياسة الخارجية، من صلاحيات البيت الأبيض، إلا أن الكونغرس (السلطة التشريعية)، يخوله الدستور التدخل في ملف السياسة الخارجية، بطريقة غير مباشرة، تجعل حرية تحكم البيت الأبيض في ملف السياسة الخارجية، محفوفاً بالصعاب.. ومفرط المحدودية.

بدايةً: كما أن للرئيس الأمريكي الحق في تعيين رموز حقيبة الخارجية في إدارته، إلا أن ذلك لا يتم إلا بموافقة الكونغرس على تعيينهم. كذلك الدستور قسم اختصاصات السياسة الخارجية بين الرئيس والكونغرس. في الوقت الذي أعطى الدستور رئيس الجمهورية قيادة الجيش والتعامل مع الأطراف الدولية، أعطى الكونغرس سلطة إعلان الحرب وعقد المعاهدات! بالإضافة إلى أن الدستور، حد من حرية البيت الأبيض في التعامل مع ملف السياسة الخارجية، بربط تكلفة خدمة أجندتها، بتوفير الموارد اللازمة، لضمان نجاحها، بإرادة الكونغرس.

صحيح: يُعتبر الرئيس الأمريكي المسؤول الأول عن السياسة الخارجية، ولا يمكن للكونغرس أن يتدخل في ملف السياسة الخارجية، عدا في حالات نادرة وصعبة من الناحية الإجرائية، إلا أن الكونغرس بإمكانه أن يغير من مسار السياسة الخارجية، تجاه قضية ما.. أو على الأقل عرقلتها، رغماً عن إرادة الرئيس، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بالحرب والسلام.. أو له علاقة باحترام القيم الليبرالية للمجتمع الأمريكي. على سبيل المثال، تاريخياً: لم يستخدم الكونغرس سلطاته في إعلان الحرب، إلا ثلاث مرات: الحرب الأمريكية المكسيكية (١٣ مايو ١٨٤٦).. الحرب العالمية الأولى (١٢ مارس ١٩١٧)، الحرب العالمية الثانية (٨ ديسمبر ١٩٤١).

رغم ذلك: في ما عُرف باصطلاح الحرب غير المعلنة وعدم المصرّح بها، دخلت الولايات المتحدة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في حروب لم يعلنها الكونغرس وإن بدا أنه موافق عليها، بصورة أو بأخرى، مثل: الحرب الكورية (١٩٥٠ - ١٩٥٣).. الحرب الفيتنامية

(١٩٥٥ - ١٩٧٥).. الحرب في البوسنة والهرسك (١٩٩٢ - ١٩٩٥) الحرب على العراق

(١٩٩٠، ٢٠٠٣).. الانزال في بيروت (١٩٥٨، ٩١٨٣)، التدخل في الصومال ( ١٩٩٣). كل تلك حروب وصراعات عنيفة خاضتها الولايات المتحدة، خارج حدودها، تحت نص صلاحيات الرئيس في الحرب، بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية، لم يعلنها الكونغرس، إلا أنه لم يعارض قرارها، أيضاً.

صراع المؤسسات في واشنطن، يجد جذوره في نصوص الدستور الغامضة والمتناقضة، معاً.. ويظهر في سلوك مؤسسات الحكم في واشنطن في التعامل مع ملف السياسة الخارجية. كل ذلك من أجل تحقيق غاية تشتيت السلطة، وفق صيغة الفصل بين السلطات، حماية لحقوق وحريات المواطنين.. والحؤول دون استبداد مؤسسات الحكم ورموزه.